المقدمة
تهدف هذه الدراسة إلى تحليل مسار العلاقات اليمنية الأمريكية في ثلاث مراحل: مرحلة الحرب الباردة، ومرحلة ما بعد الحرب الباردة، ثم مرحلة ثورة الربيع العربي.
وتروم الدراسة إلى توصيف محددات هذه العلاقة من خلال الرؤية الاستراتيجية الأمريكية وتفاعل الجانب اليمني معها في كل تلك المراحل.
وتدرك هذه الدراسة بصورة أساسية أن محددات العلاقات اليمنية الأمريكية لم تكن غائبة عن أولويات المصالح الاستراتيجية الأمريكية من جهة ومحاولة الجانب اليمني توظيف هذه الرؤية في مصلحة اليمن.
في مرحلة الحرب الباردة، تركزت الرؤية الأمريكية الاستراتيجية على محددات أيدلوجية في المقام الأول متمثلة باحتواء المد الشيوعي في العالم وفي العالم العربي والإسلامي خاصة، وفي جوهر هذه الرؤية الحفاظ على المصالح الاقتصادية الأمريكية وأمن إسرائيل، وفي مرحلة ما بعد سقوط الاتحاد السوفيتي، تركزت الرؤية الأمريكية على مجابهة الإرهاب في ظل الاستمرار في الحفاظ على أمن اسرائيل والمصالح القومية الأمريكية، وفي مرحلة ثورات الربيع العربي، ظلت الرؤية الاستراتيجية الأمريكية هي الحفاظ على المصالح الاقتصادية والأمنية الأمريكية ، ولكن في إطار رؤية أمريكية متمثلة بنشر الديمقراطية، مع القابلية للتراجع عنها إلى مفاهيم سياسية أقل منها كالحديث عن مجرد الإصلاحات السياسية.
سوف تناقش هذه الدراسة، كيف تفاعلت اليمن مع هذه الرؤية وكيف شكلت هذه المحددات اتجاه ومستوى وطبيعة العلاقات اليمنية الأمريكية في هذه المراحل الثلاث وصولاً إلى استنتاجات وخلاصات تحدد ملامح ومستقبل هذه العلاقة.
ويتكئ تحليل الدراسة على المنهج الوصفي باسلوب تحليلي للوقائع والأحداث، ولتحقيق أهداف الدراسة ، فإنها بعد هذه المقدمة، ستتناول القضايا الآتية:
أولاً : البدايات الأولى للعلاقة اليمنية الأمريكية.
ثانياً : اتجاهات الصراع الأيدلوجي في مرحلة الحرب الباردة وما بعدها.
ثالثاً: العلاقات اليمنية الأمريكية في مرحلة الصراع الأيدلوجي.
رابعاً: العلاقات اليمنية الأمريكية في مرحلة الربيع العربي.
خامساً : ملاحظات ختامية.
العلاقات اليمنية الأمريكية
أولا : البدايات الأولى
(1 – 1) لم يكن غريباً أن تكون البدايات الأولى للعلاقة بداية تجارية اقتصادية ، حينما انطلقت سفينة أمريكية تُدعى "ريكارقاري" في أواخر القرن الثامن عشر (1798) في أول رحلة تجارية إلى اليمن وعادت هذه السفينة من اليمن محملةً بما يزيد عن (326.000) طن من البن اليمني(1)، حيث كانت اليمن في هذه الفترة مشهورة بانتاجه، والذي كان يُصدر إلى الخارج عبر ميناء المخاء اليمني، الذي ارتبط اسمه بالعلامة التجارية "مكا كوفي" وما زال هذا الاسم شائعاً في سوق البن في الولايات المتحدة رغم أن القهوة الأمريكية الحالية لم يعد مصدرها البن اليمني.
كانت هذه الرحلة هي فاتحة أول علاقة تجارية منظمة حيث تم فتح أول مركز تجاري أمريكي بميناء المخاء.
وقد كان لهذه الرحلة وفتح أول مركز تجاري أثراً مشجعاً لقيام القنصل الأمريكي في عدن "تشارلز موزر". لإجراء مفاوضات سرية مع الإمام يحيى في 1910م، حول إمكانية عقد معاهدة صداقة، في وقت كانت اليمن ما زالت ولاية عثمانية وبالتالي لم يخلو هذا الطلب من مقاصد سياسية متخفية وراء مصالح اقتصادية لم تكن مقدرة لدى الجانب اليمني.
ولكن لم يكن هذا الأمر نهاية المطاف، بل كان دافعاً فيما بعد لقيام الإمام يحيى لأن يطلب من الرئيس الأمريكي ويلسون في يناير 1918م، دعم وتأييد الولايات المتحدة للإعتراف بحقوق الإمامة في اليمن واستقلال العرب بخروجهم عن الدولة العثمانية.
وبطبيعة الحال فقد كان المدخل الاقتصادي لأول علاقة يمنية أمريكية هو الذي حفز البلدان لتوقيع أول اتفاقية للصداقة والتجارة والملاحة في ابريل 1945، بعد لقاء السفير
الأمريكي في السعودية (وليم ايدي) مع الجانب اليمني، لتتطور فيما بعد إلى اعتراف الولايات المتحدة باليمن في 4 مارس 1946(2). والتي مهدت لفتح أول علاقات دبلوماسية بين البلدين في مايو 1946م.
لكن التمثيل الدبلوماسي بين البلدين جاء متأخراً، فاليمن لم تفتح أو مفوضية في واشنطن إلا في 1951م، والولايات المتحدة لم تفتح أول مفوضية أمريكية في تعز إلا في 16 سبتمبر 1959م،أعقبها التوقيع مع شركة ميكوم الأمريكية في 1960 للتنقيب عن النفط، ولكن لم يتم هذا الأمر فيما بعد.
( 2 – 1 ) ومع اندلاع الثورة اليمنية في 26 سبتمبر 1962م، وإعلان قيام الجمهورية العربية اليمنية كانت الولايات المتحدة الأمريكية من الدول التي اعترفت بالنظام الجديد في 19 ديسمبر 1962م، أي بعد أقل من ثلاثة شهور فقط على إعلان النظام الجمهوري حيث عين الرئيس الأمريكي "كندي" سفيراً له في اليمن وهو السفير "الزوث بانكر" الذي حمل معه مشروعاً أمريكياً لحل الأزمة في اليمن، المعنية بالصراع المسلح الذي نشب بين القوى الجمهورية وفلول النظام الملكي السابق، جدير بالاعتبار هنا أن بداية العلاقات اليمنية الأمريكية في العهد الجمهوري كانت بداية سياسية وليست اقتصادية، فقد كان السفير اليمني الأستاذ محسن العيني هو أول سفير يمني في ظل النظام الجمهوري، لدى الولايات المتحدة الأمريكية والجمعية العامة للأمم المتحدة وعين في 24 يوليو 1963م.(3)
وعقب إعلان استقلال جنوب اليمن عن بريطانيا في 30 نوفمبر 1967م، بادرت الولايات المتحدة الأمريكية بإعلان اعترافها بجمهورية اليمن الجنوبية الشعبية في 7 ديسمبر 1967م.
وأثناء حرب 5 يونيو 1967 بين إسرائيل وثلاث دول عربية (مصر – الأردن – سوريا) قطعت اليمن علاقاتها الدبلوماسية مع الولايات المتحدة في 5 يونيو 1967م، تضامناً مع الدول العربية واحتجاجاً على الدعم الأمريكي لإسرائيل، كما قطع جنوب اليمن علاقاته الدبلوماسية في نوفمبر 1969م.
وبعد انقطاع للعلاقات الدبلوماسية دام تسع سنوات استأنفت الجمهورية العربية اليمنية علاقاتها الدبلوماسية مع الولايات المتحدة في يوليو 1972م، في عهد الرئيس الراحل القاضي عبدالرحمن الإرياني (4).
لم تكن العلاقات اليمنية الأمريكية في ستينيات القرن الماضي مستقرة، بل كانت متأثرة أكثر بالعوامل السياسية، فطبيعة الصراع في اليمن بين القوى الجمهورية والملكية وتأثير الرئيس عبدالناصر في اليمن وتذبذب علاقات الأخير مع الولايات المتحدة ، بالإضافة إلى المواقف السياسية للمملكة العربية السعودية ونظرتها الخاصة لطبيعة الصراع في اليمن – كان له أثر كبير على مسار العلاقات اليمنية – الأمريكية في هذه الفترة، وهو مسار متقلب انتهى إلى قطيعة، فالموقف الأمريكي قد تأثر إلى حد كبير بالهواجس الأمنية المقلقة بالنسبة للمملكة العربية السعودية الحليف البارز للولايات المتحدة في الاقليم، اضافة إلى تداعيات الصراع والتنافس بين السعودية ومصر عبدالناصر على العلاقة اليمنية الأمريكية.
( 3 – 1 ) ومع بداية عقد الثمانينيات ، عادت بداية العلاقات اليمنية – الأمريكية إلى جذورها الاقتصادية كما بدأت في أواخر القرن الثامن عشر.
حيث تم في 1984 اكتشاف النفط في منطقة صرواح بمأرب من قبل شركة هنت الأمريكية، وقد شكل هذا الحدث معلماً بارزاً في مسار العلاقات اليمنية الأمريكية.
لقد كان حدثاً فارقاً لأنه كشف عن أربع دلالات رئيسية لها أهمية محورية على هذه العلاقة.
الدلالة الأولى، أكد أن مدخل العلاقات اليمنية –الأمريكية هو المدخل الاقتصادي ترسيخاً لبدايات هذه العلاقة في أواخر القرن الثامن عشر، وأن أداتها هو النفط والبحث عن النفط الذي اهتم به الأمريكيون باكتشافه في فترات ما قبل الثورة اليمنية ولكنها كانت محاولات فاشلة لم يكتب لها النجاح.
- الدلالة الثانية : وكما كشف ذلك مسار تطور العلاقات بين البلدين، فيما بعد أن حماية العلاقات الاقتصادية يتطلب الاهتمام بالجوانب الاستراتيجية الأمنية وتأمين امدادات النفط سواء من اليمن أو الاقليم التي تمر عبر ممرات وشواطئ يمنية، فإذا أضفنا إلى ذلك ما وقع في السنوات الأخيرة من تهديدات ارهابية، ليصبح بعد ذلك البعد الأمني في العلاقة يمثل أولوية قصوى ورافعة للجوانب الأخرى في هذه العلاقة من وجهة النظر الأمريكية.
- أما الدلالة الثالثة، فهي تتعلق بطبيعة العلاقة وآلية إدارتها، وقد كانت هذه الدلالة وما زالت محل اهتمام كبير من الجانب اليمني. وفحواها هل تمر العلاقات اليمنية الأمريكية عبر وسيط اقليمي (السعودية) أم ينبغي أن تتم مباشرة بين اليمن وأمريكا.
في حقيقة الأمر ، فإن جدلية العلاقات المباشرة أو غير المباشرة ظلت حالة مقلقة للجانب اليمني، فهي في مضمونها وجوهرها سؤال يتعلق بمسألة السيادة ومستوى استقلال القرار اليمني.
ولم يكن فصل هذا التداخل وحل هذه الاشكالية دوماً سهلاً، لأنه يتوقف على العديد من الاعتبارات السياسية والاقتصادية والشخصية التي ظل الجانب اليمني يأخذها بعين الاعتبار وهو يدير علاقاته مع المملكة العربية السعودية، وعلى قدر الحصافة والموازنة في آلية إدارة العلاقات مع الولايات المتحدة، يكمن مستوى التوتر صعوداً وهبوطاً بين اليمن والسعودية من جهة، أو استقرار وعدم استقرار العلاقات اليمنية الأمريكية من جهة أخرى.
- الدلالة الرابعة: إن اكتشاف النفط اليمني من قبل شركة أمريكية لا يمكن عزله عن جوانب الصراع العالمي بين الكتلة الغربية والشرقية – وهو صراع أيدلوجي كان له انعكاسات مباشرة وغير مباشرة على اليمن- فاليمن بشطريه كان ساحة صراع ايدلوجي عالمي، وقد انعكس ذلك على طبيعة العلاقات اليمنية
اليمنية بين الشمال والجنوب منذو الستينيات وحتى الثمانينيات، فقد ظل اليمن متأثراً بطبيعة هذا الصراع العالمي ولم يسلم من تداعياته، بل كان ذلك محدداً محورياً في مسار العلاقات اليمنية الأمريكية حتى قيام الوحدة اليمنية عشية انهيار الكتلة الاشتراكية (انهيار الاتحاد السوفيتي).
لذلك ، لا يمكن توصيف العلاقات اليمنية الأمريكية بمعزل عن طبيعة الصراع العالمي الذي كان سائداً في مرحلة الحرب الباردة وما بعدها، وهذا ما سنتناوله تباعاً في هذه الدراسة.
ثانياً : اتجاهات الصراع الأيدلوجي في مرحلة المرحلة الباردة وما بعدها
( 1 – 2 ) طبيعة الصراع العالمي في مرحلة الحرب الباردة:
نشأت الحرب الباردة بين الكتلة الغربية الرأسمالية بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية والكتلة الاشتراكية الشوعية بقيادة الاتحاد السوفيتي كما هو معروف، عقب انتصار الحلفاء على ألمانيا وانهيارها في 1945م.
وعلى رغم أن المنتصرين هم الولايات والدول الأوروبية، وكذلك الاتحاد السوفيتي ، إلا أنه مع انتهاء الحرب الدامية التي قتلت أكثر من خمسين مليون إنسان ودمرت البلدان الأوروبية المتصارعة، تحول الصراع العالمي في اتجاه آخر، فقد تحولت العلاقة بين الغرب والاتحاد السوفيتي من تحالف على عدو مشترك بينهما (النازية) إلى صراع وتنافس فيما بينهما عُرفت بالحرب الباردة، وهي الحرب التي منعت الحرب المباشرة بينهما وتحولت إلى حرب غير مباشرة من خلال إدارة الحروب على أراضي دول أخرى توزعت تبعيتها بين هذه الكتلة أو تلك في أمريكا اللاتينية أو أفريقيا أو الشرق الأدنى، أو الشرق الأوسط التي منها المنطقة العربية والعالم الإسلامي، اتخذت الحرب الباردة عنواناً فكرياً وثقافياً رئيسياً عُرف بالصراع الأيدلوجي ، فالصراع في طبيعته وحقيقته هو صراع بين فكرتين متضادتين: الأيدلوجية الغربية القائمة على الحرية والنظام الرأسمالي والأيدلوجية الشيوعية الاشتراكية التي تبناها الاتحاد السوفيتي. وحددت كل كتلة استراتيجيتها ورؤيتها في مواجهة كل منهما في مواجهة الآخر، فالاستراتيجية الأمريكية اعتمدت على مبدأ احتواء المد الشيوعي في العالم بسقف أعلى يصل إلى حد الانتقام الشامل (5).
واقتضى تنفيذ الاستراتيجية الأمريكية تطويق الاتحاد السوفيتي ودول شرق أوروبا بجدار من الاحلاف والقواعد العسكرية التي من شأنها الحد من توسع الاتحاد السوفيتي ومنعه من التوسع والانتشار أو تجاوز الخطوط والحدود المرسومة بين الكتلتين، كما وضعت الرؤية الاستراتيجية الأمريكية هدفاً نهائياً لها وهو عزل الاتحاد السوفيتي حتى ينهار، وقد اقتضى تحقيق هذا الهدف في بعض الفترات أن تبنت الإدارة الأمريكي استراتيجية "حافة الهاوية". وهي الاستراتيجية التي بلور معالمها الرئيسية وزير خارجية أمريكا "فوستر دالاس" في خمسينيات القرن الماضي (6)
بيد أن الاستراتيجية الأمريكية لتطويق المد الشيوعي لم تتكئ على محددات القوة العسكرية والأمنية الاستراتيجية فحسب والتي بلغت ذروتها بسباق التسلح النووي بين الكتلتين، وإنما اتكأت أيضاً على خلفية ايدلوجية وعقائدية واضحة. فصراع الحرب الباردة هو صراع عقائدي في المقام الأول، إنها مرحلة صراع الأيدلوجيات ، وفي الولايات المتحدة الأمريكية ظهر هناك من يؤصل فكرياً لهذا الصراع المحموم، منذ خمسينيات القرن الماضي، حيث كان دور اليمين الديني السياسي المحافظ في أمريكا يتصاعد ويأخذ مواقعه الفكرية في المجتمع الأمريكي، وكانت الرافعة الأساسية لهذا الدور هو الصراع مع الشيوعية، وهي الرافعة الأيدلوجية المتمثلة باحتواء ومحاصرة الفكر والمد الشيوعي، وكذلك من خلال الرافعة الاقتصادية التي أوصلت هذا التيار فيما بعد إلى الصفوف الأولى أثناء ولاية الرئيس ريجان. فقد تبنى هؤلاء من جديد قضايا التحول الاقتصادي الجديد الذي قاده الرئيس ريجان في إطار ما أطلق عليه بالاقتصاد الريجاني ، وهو خليط من الأفكار الاقتصادية الكلاسيكية والكلاسيكية الجديدة ، عُرفت بمدرسة العرض الكلي، ومن رواد هذه المدرسة جورج جيلدر ولافروكريستول الذين كانوا أعلاماً في مدرسة اقتصاديات العرض التي تقف على خصومة فكرية مع النظرية الاقتصادية الكينزية في إطار النظام الرأسمالي، فقد اعتقد هؤلاء الاقتصاديون أن التحول الاقتصادي في إطار مدرسة العرض سيجعل النظام الرأسمالي أكثر قدرة وفعالية في معالجة الأزمات الاقتصادية التي كان يعاني منها النظام الرأسمالي والتي كادت أن تضعفه في مواجهة النظام الاقتصادي الاشتراكي.
لذلك اتجهت رؤى هؤلاء إلى إعادة الاعتبار للسياسات الاقتصادية المحفزة للعرض الكلي من خلال التخفيض الضريبي على الدخل ورأس المال، حيث من شأن تلك السياسات أن تكون محفزة للأجور الحقيقية والإدخار والاستثمار وزيادة حجم التشغيل ، ومن الواضح أن تلك السياسات كانت تتجه نحو منح مزيد من الدور والأرباح الاقتصادية للطبقة الرأسمالية(7).
ومن جهة أخرى ظل تيار اليمين السياسي المحافظ يواصل صعوده في إطار الرافعة الأيدلوجية السياسية إلى أن وصلوا إلى قمة السلطة في الإدارة الأمريكية أثناء ولاية الرئيس بوش الأب والإبن، وأصبح هذا التيار هو مصدر تزويد الإدارة الأمريكية بالوقود الفكري لحروب أمريكا الجديدة في ظل الأيدلوجية الجديدة التي تم تبنيها بعد سقوط الاتحاد السوفيتي وهي أيدلوجية مكافحة الإرهاب. إن من أبرز رموز هذا التيار في هذه الحقبة هو كلاً من دونالد رامسفيلد (وزير الدفاع) ودوجلاس فايت وبول ولفوفيتر وبيرل وغيرهم ، وهم الذين ترجع جذورهم الفكرية والسياسية إلى حقبة الخمسينات ، وهي حقبة الصراع الأيدلوجي بين الرأسمالية والماركسية أو حقبة مواجهة واحتواء المد الشيوعي كما هو معروف.
إن الفترة من 1945 وحتى 1989 (سقوط الاتحاد السوفيتي) هي فترة صراع الأيدلوجيات التي كانت لها ارتداداتها على الأوضاع السياسية والاقتصادية والأمنية في اليمن بشطريه، وقد سعت كل كتلة إلى تقديم أيدلوجيتها للعالم من خلال رؤى وعناوين استراتيجية –فكرية مثيرة للاهتمام.
فالأيدلوجية الغربية اتكأت على الحرية والديمقراطية والنظام الاقتصادي الرأسمالي، تقابلها أيدلوجية شيوعية اشتراكية، تنظر إلى الصراع بأنه صراع بين قوى السلم وقوى الحرب، بين قوى الخير وقوى الشر. أي أنه صراع أنظمة اقتصادية واجتماعية وفقاً للرؤية السوفيتية.
فهو صراع بين نظام اقتصادي واجتماعي أكثر انسجاماً واتساقاً مع مضمون وجوهر التطور الإنساني ، وبين نظام رأسمالي يتناقض كلية مع مسار التطور التاريخي للبشرية لأنه نظام تسيره الاحتكارات الكبرى ويتغذى على الحروب ويستمد قوته من استغلال الأقلية للأغلبية(8) .
وقد سعى الاتحاد السوفيتي لتسويق رؤيته الاستراتيجية وتحقيق أهدافها من خلال تكوين جبهة عالمية عُرفت بجبهة القوى الدولية المحبة للسلام.
لكن كان هناك تطور لافت ومذهل كان قد أخذ مساره مُنذ بداية ستينات القرن الماضي، وكان له دوراً في تلطيف وعقلنة طبيعة واتجاه الصراع الأيدلوجي المحتدم بين الكتلتين في تلك الفترة.
فالتطور التقني المتسارع والمذهل كان له أثراً على ضبط مسار الحرب الباردة خاصة فيما يتعلق بسباق التسلح النووي بين الكتلتين ، مما أدى إلى إعادة صياغة الرؤية والمعادلة الاستراتيجية للكتلتين في مواجهة بعضهما البعض، فلم تعد استراتيجية الانتقام الشامل للولايات المتحدة هي الاستراتيجية المرغوبة حيث تم تطويرها إلى استراتيجية الحرب المحدودة وكذلك نظرية الاستجابة المرنة أو الرد المرن.
ومن جانب آخر تعدلت الرؤية الاستراتيجية السوفيتية وانتقلت من نظرية حتمية الصراع إلى نظرية التعايش السلمي، التي عُرفت بنظرية أو فكرة خروشوف رئيس الوزراء السوفيتي وقتذاك.
ومن نظرية التعايش السلمي تم اشتقاق فكرة أو مشروعية تعدد الطرق نحو الاشتراكية.
ومن اللافت للنظر أن التطور التقني المذهل في الستينيات قد تزامن مع ظهور قوى عالمية جديدة كان لها تأثير على مسرح السياسة العالمية، مثل تكتل السوق الأوروبية المشتركة في الغرب أو الصين التي كان دورها متصاعداً ومنافساً للإتحاد السوفيتي في الشرق.
إن محصلة هذه التطورات على مسرح الصراع العقائدي هو إطلاق الرئيس الأمريكي السابق نيكسون نظرية الوفاق الدولي بين الكتلتين ، في الوقت الذي كان دور كتلة دول عدم الانحياز أو الكتلة الأفروآسيوية يتصاعد على مسرح الصراع العالمي.
وفي حقيقة الأمر لم تمنع نظرية الوفاق الدولي من استمرار الصراع الأيدلوجي وأن اختلفت حدته ومداه وأبعاده ووسائله، ولم يكن تخفيف التوتر والصراع الأيدلوجي قابلاً للاستدامة، فقد تعرض لنكسة في عهد الرئيس ريجان، عندما تبنى نظرية الإجماع الاستراتيجي تحت تأثير اليمين المحافظ. وتتضمن هذه النظرية مجموعة من السياسات والقواعد الجديدة التي تتبعها الإدارة الأمريكية في تحقيق التعاون بين الدول المتقدمة والدول الموالية للغرب في الشرق الأوسط بهدف تحييد التهديد السوفيتي.
وأياً كان الأمر، فلا ريب أن طبيعة واتجاه وحدة الصراع الأيدلوجي الذي استمر نحو 45 سنة بين الكتلتين، كان له انعكاسات على العلاقات اليمنية الأمريكية، مثل ما كانت له ارتدادات واسعة في كثير من الدول الأسو-افريقية، ومنطقة الشرق الأوسط التي فيها العالم العربي والإسلامي.
( 2- 2) : اتجاهات النظام العالمي بعد الحرب البادرة
مع انهيار الاتحاد السوفيتي في 1990م، بدت معالم نظام دولي جديد تتشكل من نظام ثنائي القطبية إلى نظام أحادي القطبية على قمته الولايات المتحدة الأمريكية، وبصرف النظر عن طبيعة الجدل السياسي الفكري حول طبيعة وبنية هذا النظام ومدى استقراره أو مدى أحاديته أو تعدديته، إلا أنه كان واضحاً أن الولايات المتحدة كانت تسعى إلى ترسيخ ما أطلق عليه بالقرن الأمريكي الجديد، بالاتكاء على ما تمتلكه من مصادر القوة العسكرية والاقتصادية والتقنية، والسياسية من جهة، ومن شعور بالانتصار على الكتلة الاشتراكية من جهة أخرى، وهو ما جعلها تسارع إلى تحقيق ثلاثة أهداف استراتيجية هي:
- تصفية آثار التمدد السوفيتي السابق أثناء الحرب الباردة.
- إعادة تعريف طبيعة الصراع العالمي كي يتناغم مع اتجاهات وبنية النظام العالمي الجديد الذي تسعى الولايات المتحدة إلى تشكيله وفقاً لما يتوفر لديها من رؤية عالمية لمستقبل النظام الدولي، وهي الرؤية التي تفتقدها الدول المنافسة الأخرى، ومن ثم مسارعتها إلى تمرير رؤيتها وفرضها على العالم.
- الاستعداد لإدارة ومواجهة نقطة التحول التاريخي في جذور الصراع العالمي مع بداية الألفية الثالثة.
لقد مثل انهيار الاتحاد السوفيتي (في الرؤية الأمريكية) انهياراً للمنظومة الفكرية والعسكرية الأمنية للنظام الاشتراكي الذي كان يقوده الاتحاد السوفيتي، وبالتالي فهو بالمقابل يعني انتصاراً للمنظومة الفكرية والعسكرية الغربية، وانتصار للنظام الرأسمالي كنظام اقتصادي واجتماعي ومنظومة ايدلوجية .
بالتالي فإن فشل للنظام الاقتصادي والاجتماعي القائم على احتكار الدولة لكافة الأنشطة الاقتصادية وتدخلها المفرط في كل دقائق الحياة الاقتصادية، لا يقابله إلا انتصار النظام الاقتصادي والاجتماعي الرأسمالي القائم على آلية السوق والحرية الاقتصادية.
ووفقاً لهذه الاعتبارات سعت الولايات المتحدة إلى نشر الأفكار الاقتصادية التي تمجد الحرية الاقتصادية في العالم ، إضافة إلى جعلها ركيزة أساسية في عمل المؤسسات الاقتصادية الدولية كالبنك الدولي وصندوق النقد الذي أصبح على عاتقهما التأثير في السياسات الاقتصادية للدول في الاتجاه الذي يرسخ نظام الحرية الاقتصادية وإطلاق المبادرات الخاصة ، وعلى المستوى الرسمي سعت الإدارات الأمريكية إلى ربط عونها ودعمها الاقتصادي لدول العالم الثالث بإجراء إصلاحات اقتصادية جذرية، تقوم على آلية السوق والنظام الرأسمالي(9).
أيدت الولايات المتحدة ثورات الشعوب في دول أوروبا الشرقية التي أسقطت أنظمتها الشيوعية وأدت إلى تهميش دور الأحزاب الشيوعية فيها من خلال العملية الديمقراطية في هذه البلدان.
ومن جهة أخرى دعمت الولايات المتحدة تطوير دور حلف الأطلسي وتشجيع دول أوروبا الشرقية للإنظمام إلى هذا الحلف في ظل بناء رؤية جديدة لدور الحلف في العالم.
كان لهذه التطورات المتسارعة ارتداداتها وتداعياتها حيث تلاشى بريق الأفكار الشيوعية في العالم التي كانت ركيزة الصراع أثناء الحرب الباردة ، مقابل صعود الأفكار الليبرالية الجديدة.
وفي حقيقة الأمر ، فقد جرى إعادة تشكيل وتعريف طبيعة الصراع العالمي بعد انهيار الاتحاد السوفيتي، باعتبار ذلك ركيزة أساسية لبناء النظام الدولي الجديد ، حيث لم يعد الصراع الأيدلوجي الذي كان سائداً في الحرب الباردة يشكل مادة أو جذر الصراع منذو أواخر تسعينيات – القرن الماضي- ، كانت عملية الانتقال من الصراع الأيدلوجي إلى نوع آخر من الصراع يمثل أولوية في إطار الرؤية الأمريكية الجديدة. وقد تبلورت معالم طبيعة الصراع الجديد وفقاً لطبيعة ومحددات المخاطر التي تحددها الإدارة الأمريكية ومن حيث مستوى تأثيرها على أمن ومكانة الولايات المتحدة عالمياً.
لذلك انشغلت المؤسسات الأمريكية بشقيها الرسمي والفكري، بإعادة تكييف جديدة لطبيعة جذور الصراع العالمي كما يراه الأمريكيون.
حتى لو اقتضى هذا التكييف تحديد عدو افتراضي وتسويقه وفقاً لمنظومة فكرية تحددها الرؤية الأمريكية الجديدة، في بداية تسعينيات القرن الماضي، أخذت المؤسسات الفكرية الأمريكية على عاتقها صناعة هذا الفكر، ومن خلالها بدأ الترويج والتسويق لفكرة صراع الحضارات والثقافات لا صراع الديانات.
ومن أبرز الأفكار والظواهر التي تم تسويقها فكرة العولمة في بعدها الحضاري والثقافي والاقتصادي، وقد مثل إعلان قيام منظمة التجارة العالمية في مراكش 1994م، إيذاناً بالعولمة الاقتصادية، وانتشار أفكار السوق وصعود الليبرالية الجديدة على مستوى عالمي(10).
وكان عدد من المفكرين والمثقفين الأمريكيين يروجون لفكرة صراع الحضارات والثقافات والعولمة ومن هؤلاء صاموئيل هثجتون وفاكو ياما، وعلى مستوى الإدارة الأمريكية كان هناك هنري كسنجر وزير الخارجية الأمريكية الأسبق، الذي أكد على أن الصراعات المهمة والمسلحة والخطرة لن تكون بين الطبقات الاجتماعية أو بين الغني والفقير أو بين أي جماعات أخرى محددة اقتصادياً بل ستكون بين شعوب تنتمي إلى كيانات ثقافية مختلفة (11) ، وفي إطار العالم الإسلامي ، اهتمت الرؤية الأمريكية بما عُرف بمبدأ أو نصيحة نكسون في كتابه "الفرصة السانحة"، الذي أشار إلى أهمية توظيف وإذكاء الصراع السني – الشيعي.
لذلك لم تكن فكرة البحث عن عدو جديد غائبة من إدارة الصراع العالمي الجديد الذي تقوده أمريكا لوحدها، وربما تنبهت الإدارة الأمريكية إلى تحذير مسئول سوفيتي أثناء لقاء القمة بين ريجان وجورباتشوف، حينما نصح الأمريكان أن لا يعملوا على إسقاط الإتحاد السوفيتي لأنهم ببساطة لن يجدو عدواً يبرروا به تمددهم العالمي (12).
ومع ذلك فإن جذور فكرة الصراع الحضاري والثقافي والديني قد تصاعدت مع صعود اليمين الديني في أمريكا أثناء الحملة الانتخابية للرئيس ريجان ، تحت ستار "الولادة مرة أخرى"، واعتبر هؤلاء أن هناك معسكر الخير مقابل الشر، وفي حقيقة الأمر فإن صعود اليمين الديني كان تتويجاً لمرحلة سبقتها في 1976م وظهور ما أطلق عليه بالحركة الصهيونية المسيحية أو "الانجيليين الأصليين"(13) أثناء رئاسة كارتر . وفي عهد بوش الأب والإبن أحكم هذا التيار سيطرته على مفاصل الإدارة الأمريكية حيث كان همهم الأساسي ضمان أمن اسرائيل، وهو ما شكل الركيزة الأولى في بناء الاستراتيجية الأمريكية المتعلقة بتحديد طبيعة الصراع العالمي الجديد وتحديد مجال عملها الرئيس جغرافياً في إطار العالم العربي والإسلامي.
ومن جانب آخر مثلت أزمة الخليج الأولى والثانية ، ثم الهجوم على برجي التجارة العالمية في 11/9/2001، الحدث التأريخي لإعادة صياغة طبيعة الصراع العالمي بصورة أكثر وضوحاً، حيث أضحت قضية الارهاب هي أيدلوجية الصراع العالمي الجديد، وأضحى العالم العربي والإسلامي هو المجال الحيوي الرئيسي للصراع الجديد، وبالتالي التحكم في هذه المنطقة ، ومن الواضح أن تلك الوقائع والأحداث وخاصة أحداث 11/9/2001، كانت لها تداعيات كبيرة متمثلة في تركيز اليمين الديني السياسي على العالم العربي والإسلامي في إطار أيدلوجية الحرب على الإرهاب التي تم الإعلان عنها في 17/9/2002م، ومن خلال شعار استعلائي أعلنه بوش الإبن بأن من ليس معنا فهو ضدنا ، وهي المقولة التي أصبحت الموجه للسياسة الخارجية الأمريكية الجديدة في العالم، وفي مكافحة الإرهاب.
وبصورة محددة اتكأت استراتيجية الولايات المتحدة في مكافحة الإرهاب وفقاً لما عرف بمبدأ بوش الذي عكسته وثيقة الأمن القومي الأمريكي الصادرة في سبتمبر 2002م، ومن أبز عناصرها (14):
- استخدام القوة العسكرية الأمريكية الاستباقية ضد مخاطر الإرهاب قبل وقوعها.
- فرض الديمقراطية كاستراتيجية لمحاربة الإستبداد والإرهاب.
وفي عهد الرئيس أوباما جرى تعديل على مبدأ بوش واستراتيجيته، حيث اعتمد أوباما سياسات أخرى بديلة عرفت (بالسياسة الانكفائية) (15).
وهي السياسية التي تقوم على تجنب التدخل المباشر واحلالها باستراتيجية القوة الناعمة وليس استراتيجية القوة الخشنة، - أي الاستراتيجية القائمة على الإقناع الأدبي. فالتعامل مع المنطقة العربية في استراتيجية أوباما ينبغي أن تتم وفقاً لمعيار الواقع أو التعامل معها كما هي وليس وفقاً لمعيار ما ينبغي أن يكون كما كان يرى بوش.
وعند زيارته للقاهرة بعيد فوزه بالانتخابات الرئاسية ، ألقى خطاباً حدد فيه طبيعة استراتيجيته الجديدة ولخصها في ثلاثة عناصر هي:
• لا يمكن لأية دولة أن تفرض نظاماً للحكم على أي دولة أخرى.
• احترام حق جميع من رفعوا أصواتهم للتعبير عن آرائهم بطريقة سلمية.
• نرحب بالحكومات المنتخبة شريطة احترامها لجميع أفراد الشعب في ممارسة الحكم.
ولم يكن تبني أوباما لهذه الاستراتيجية إلا صدى لفشل الولايات المتحدة في العراق، وغرقها في أفغانستان، وهو التدخل الذي كلفها مليارات الدولارات وزعزع هيبتها العسكرية وقوتها الاقتصادية، مما كان له تداعيات فيما بعد ساقت إلى حدوث الأزمة المالية والاقتصادية العالمية التي انفجرت في الولايات المتحدة في 2008م، لذلك لم يكن غريباً أن يتبنى أوباما هذه الرؤية لأنها أكثر اتساقاً مع متطلبات تحقيق المصلحة القومية الاستراتيجية للولايات المتحدة الأمريكية ، ومع كل ذلك فإن بعض المؤسسات البحثية الأمريكية ومنها معهد واشنطن ما زال يتبنى الدعوة إلى التدخلية الأمريكية في المنطقة ، ويقترح بعض باحثي المعهد إنشاء تحالف بين إسرائيل وبعض دول الخليج التي تنظر بتوجس وقلق من ثورات الربيع العربي وتقف ضدها بالإضافة إلى ميلها تجاوز القضية الفلسطينية.(16)
وأياً كان الأمر، فإن عرض الاتجاهات الجديدة للنظم العالمي الجديد الذي تقوده الولايات المتحدة، كان ضرورياً لفهم طبيعة انعكاس هذه التطورات على العلاقات اليمينة الأمريكية في مرحلة ما بعد الحرب الباردة.
ثالثاً العلاقات اليمنية الأمريكية في مرحلة الصراع الأيدلوجي
(1 – 3 ) العلاقات اليمنية الأمريكية في مرحلة الحرب الباردة:
يمكن القول، أن العلاقات اليمنية الأمريكية في هذه المرحلة قد تأثرت بمجموعتين من المحددات والمعطيات وهي:.
• مجموعة المعطيات العامة ذات العلاقة بالعالم العربي والإسلامي واليمن واحداً منها.
وتكمن أهمية هذه المعطيات في بعدها الجغرافي ومستوى علاقتها بما كان مطلوباً من دول الشرق الأوسط في إطار الاستراتيجية الأمريكية.
• مجموعة المعطيات والمحددات ذات العلاقة بصورة مباشرة بالتطورات السياسية والاقتصادية والاستراتيجية في اليمن وموقعه الجيواستراتيجي الذي يمثل نقطة جذب محورية في شبه الجزيرة العربية.
المحددات العامة ذات العلاقة بالعالم العربي والإسلامي:
كما هو معروف فإن معظم البلدان العربية والإسلامية كانت واقعة تحت الاستعمار أو الانتداب الناجم عن محصلة التطورات العالمية للحرب العالمية الأولى حيث تم تقسيم العالم العربي والإسلامي وفقاً لاتفاقية سايس بيكو الشهيرة(1916) كغنائم حرب للدول المستعمرة المنتصرة في الحرب العالمية ، كان جنوب اليمن واقعاً تحت الاستعمار البريطاني منذو أواخر القرن التاسع عشر الذي احتلته بريطانيا في 1889م، في أوج الحرب الباردة (خمسينيات وستينيات القرن الماضي)، شهدت المنطقة العربية حركات تحرر من الاستعمار بفعل اليقضة والصحوة العربية الصاعدة والوعي العام للشعوب العربية بأهمية التحرر من الاستعمار والتبعية.
وكما هو معروف فقد كان من أولويات الاستراتيجية الأمريكية أن تكون الولايات المتحدة بديلاً عن بريطانيا في الشرق الأوسط، وانطلقت هذه الرؤية من نقطة ارتكاز جيو استراتيجية ونقطة ارتكاز ايدلوجية، فمن جهة رأت الولايات المتحدة الأمريكية أنها تتقاسم مع العالم الإسلامي فكرة مواجهة الشيوعية، وأن للعالم الإسلامي دوراً فاعلاً في تحقيقها سواءً من خلال تكثيف المناهج الدراسية المعادية للشيوعية أو من خلال الملاحقة الأمنية للشيوعيين. وقد كان مما يعزز هذا التعاون الأيدلوجي غياب أي من صراع تاريخي بين المسلمين والأمريكيين مقارنة بالصراع التأريخي بين العالم الإسلامي وأوروبا. لكن هذه الثقة والعلاقة لم تكن دوماً قابلة للاستدامة والاستقرار أو الثبات.
فالولايات المتحدة لم تتمكن من كسب ثقة العرب بسبب انحيازها لاسرائيل وضمان أمن اسرائيل على حساب قضية الشعب الفلسطيني التي غدت تمثل قضية مركزية للعرب والمسلمين على السواء .
وبالمقابل تمكن الاتحاد السوفيتي من كسب الدول العربية التي شهدت حركات تحرر من الاستعمار ومنها جنوب اليمن، الذي حاز على الاستقلال في 30 نوفمبر 1967 تتويجاً لثورته التي انطلقت في 14 أكتوبر 1963م.
لقد هيأ دعم الكتلة الشرقية لثورة اليمن في شماله وجنوبه والذي كان داعماً للدور المصري في اليمن ، الأجواء السياسية لتقبل النخبة السياسية في جنوب اليمن لاحتضان الفكر الاشتراكي كنظرية في ممارسة الحكم وإدارة الاقتصاد، كما أن تصاعد الفكر اليساري تلك الفترة في العديد من الدول العربية كان عنصراً محفزاً أيضاً لاحتضان هذا الفكر والرضاء بعلاقات متينة مع الاتحاد السوفيتي.
كانت الروابط الاستراتيجية بين جنوب اليمن والاتحاد السوفيتي قد وصلت ذروتها بتدشين إعلان التوجه الاشتراكي للقيادة الجنوبية الجديدة في اليمن، وفي المؤتمر العام الخامس للجبهة القومية مارس 1972م، تم إعلان التوجه الاشتراكي عندما أطلق المؤتمر العام برنامجاً تحت عنوان مهام مرحلة الثورة الوطنية الديمقراطية. في هذا الإعلان تم طرح وبصورة صريحة احتضان وتبني الجبهة القومية للاشتراكية العلمية.(17)
من جانب آخر كان التطور السياسي في شمال اليمن قد اختط مساراً حذراً فيما يتعلق بالموقف من طبيعة الصراعات العالمية في فترة الحرب الباردة.
فقد تأثر موقف النخبة السياسية في اليمن بعد ثورة 26 سبتمبر 1962 بالاتجاه المصري العام الذي كان مهيمناً على المنطقة العربية بصورة عامة واليمن بصورة خاصة .
وذلك بحكم الدعم المصري العسكري للثورة اليمنية وحماية النظام الجمهوري الجديد، واحتضان الفكر القومي الذي قاده عبدالناصر، وبالتالي فقد اتخذت قيادات شمال اليمن موقفاً استراتيجياً أقرب إلى الموقف المصري وهو البقاء على الحياد النسبي .
وقد كان هذا الموقف متسقاً مع مبادئ ومنطلقات ما عُرف حينها بالطريق الثالث أو ما أطلق عليه كتلة دول عدم الانحياز التي تبلورت في نهاية الخمسينيات. حيث شكلت إطاراً جاذباً للعديد من الدول العربية لأنه يجنبها التحالف الصريح مع هذه الكتلة أو تلك، ولأن أي تحالف من هذا النوع، سيسوقهم إلى اتباع خيارات وأولويات احدى الكتلتين، التي ستكون بالطبع على حساب أولوية القضية الفلسطينية بالنسبة للعرب والمسلمين.
وأياً كان الأمر، فإن هذه المعطيات العامة التي كانت سائدة على الساحة العالمية وقتذاك، قد انتهت إلى أن تتبنى الدولة الجديدة المستقلة في جنوب اليمن خيار الأيدلوجيا الاشتراكية والتحالف مع الاتحاد السوفيتي، بيمنا فضل شمال اليمن خيار الحياد النسبي وإن تأرجح أحياناً واتجه نحو الكتلة الشرقية وأحياناً أخرى نحو الكتلة الغربية.
ويمكن القول أنه بصورة عامة، فإن شمال اليمن قد اتبع سياسة مفتوحة ومتوازنة نسبياً باتجاه الكتلتين العالميتين .
وفي حين استراح السوفيت لفكرة الحياد بالنسبة لشمال اليمن، إلا أنهم كانوا أكثر حرصاً على بقاء جنوب اليمن تحت نفوذ الكتلة الاشتراكية العالمية. وفي حقيقة الأمر، كان هناك بعداً غير أيدلوجي ضل محدداً آخر رئيسياً لعلاقة الاتحاد السوفيتي بجنوب اليمن وهو الأهمية الاستراتيجية لعدن، وبالرغم من أن الإدارة الأمريكية لم تفشل تماماً في ملئ الفراغ بالمنطة العربية واليمن خاصة بعد هزيمة حرب يونيو 1967م، وانكشاف الدعم الأمريكي الكامل لإسرائيل ، إلا أن الإدارة الأمريكية لم تترك الساحة اليمنية كاملة للاتحاد السوفيتي، حيث كانت لها مقاربة أخرى لاحتواء المد الشيوعي في اليمن من خلال المحددات المباشرة للعلاقة اليمنية الأمريكية.
محددات العلاقة المباشرة:
ليس جديداً القول بأن رؤية الولايات المتحدة الأمريكية لليمن لا يمكن عزلها عن تفاعلات ومسارات الحرب الباردة ، والرؤية الأمريكية على وجه الخصوص في إحتواء المد الشيوعي.
فعلى الرغم من الاعتراف المبكر للولايات المتحدة باستقلال جنوب اليمن في 1967م، إلا أنه سرعان ما تدهورت هذه العلاقة بين أمريكا وجنوب اليمن، فالإدارة الأمريكية رأت في تبني القيادة الجنوبية للأيدلوجيه الاشتراكية انحيازاً للكتلة السوفيتية، لذلك أدرجت أمريكا جنوب اليمن في قائمة الدول الإرهابية وظلت بموجبها العلاقات مجمدة إلى أن تم توحيد اليمن في مايو 1990م.
فلم تكن المقاربة الأمريكية لليمن في جوهرها مقاربة جيوسياسية فقط وإنما مقاربة أيدلوجية لذلك كان اهتمامها بشمال اليمن ينطلق من هذه الزاوية ، فالإدارة الأمريكية لم تكن ترغب أن ترى الجزء الأكثر سكاناً من اليمن واقعاً تحت الهيمنة السوفيتية، لأن من شأن ذلك أن يؤثر استراتيجياً على وضع حليفها الرئيس في المنطقة وهي المملكة العربية السعودية، وقد كان لهذه المخاوف المشتركة، بين السعودية وأمريكا دوراً حاسماً في إدارة الإهتمام الأمريكي باليمن عبر البوابة السعودية وحينها كان الموقف الأمريكي داعماً للموقف السعودي حيال تطورات الأوضاع في اليمن، مما يشير إلى أن الإدارة الأمريكية قد تبنت ودعمت المقاربة السعودية في مواجهة أوضاع اليمن في تلك الفترة.
وفي سبعينيات القرن الماضي، توترت العلاقات بين شطري اليمن عسكرياً وأيدلوجياً ، إلا أن المفارقة في هذا هو أنه مع كل توتر يزيد تمسك اليمنيين والنخبة السياسية في الشطرين بوحدة اليمن والإصرار على تحقيقها ولكن وفقاً للرواية الخاصة بكل شطر.
كانت قيادة كل شطر تمتلك استراتيجية مختلفة عن الأخرى في تحقيق الوحدة سواء من حيث الوسائل أو الإطار الفكري لدولة الوحدة ، وقد انعكس هذا التباين في شكل صراع سياسي –فكري عسكري بين الشطرين مباشرة أو عبر مكونات وأدوات وسيطة أخرى.
وحي أن الصراع الفكري في اليمن إنما كان انعكاساً للصراع الأيدلوجي على المستوى العالمي ، كانت سياسة الولايات المتحدة إزاء العلاقات بين شطري اليمن تنطلق من هذه الرؤية.
لذلك تركز اهتمام الولايات المتحدة بامداد شمال اليمن بالسلاح لمواجهة المد الشيوعي القادم من الجنوب كما كانت تراه الإدارة الأمريكية، وقد تكفلت السعودية بتمويل صفقة السلاح التي قدرت قيمتها بنحو 400 مليون دولار أمريكي (18) .
وفي ثمانينيات القرن الماضي كان هناك تطوراً لافتاً في العلاقات اليمنية الأمريكية تمثل في العودة مرة أخرى إلى المدخل الاقتصادي للعلاقات اليمنية الأمريكية.
فالمصلحة المشتركة بين البلدين انعكست على قيام الشركات الأمريكية باكتشاف النفط في شمال اليمن في 1986م، ومن الدوافع الأخرى لهذا الاهتمام هو قيام الشركات الروسية أيضاً بمحاولة اكتشاف النفط في جنوب اليمن.
مثَّل اكتشاف الشركات الأمريكية للنفط في شمال اليمن نقطة تحول كبيرة، سواء في ترسيخ العلاقات بين البلدين أو في طريقة إدارة هذه العلاقة لتغدو مباشرة معها وليس عبر البوابة السعودية كما كان سابقاً ، ففي ابريل 1986م، أكد بوش عند افتتاحة مع المسؤلين اليمنيين لأول مصفاة نفط في مأرب بأن التعاون في الانتاج النفطي يعني شراكة أمريكية أكبر مع الشعب اليمني، ومن جانب آخر كان لاكتشاف النفط أثر على مستوى العلاقة بين الشطرين فقد كان النسق الاقتصادي دافعاً لتطوير علاقات الشطرين، وما إن سقط الاتحاد السوفيتي في أواخر الثمانينيات إلا والظروف السياسية والفكرية مواتية لتسريع عملية المضي نحو توحيد اليمن.
ولا ريب أن المحدد الحاسم في هذا التسريع هو سقوط الاتحاد السوفيتي الذي هيأ الأمر لتواري الصراع الأيدلوجي ومن ثم استعادة الوحدة اليمنية.
( 2- 3) : محددات العلاقات اليمنية – الأمريكية في مرحلة ما بعد الحرب الباردة
إن اليمن كغيره من دول العالم العربي والإسلامي قد أضحى أكثر تأثراً وانكشافاً بالنظام الدولي الجديد الذي تقوده الولايات المتحدة .
وبالنسبة لليمن، لم تكن سقوط مرحلة الحرب البادرة والولوج إلى نظام دولي جديد أحادي القطبية يمثل شراً محضاً لليمن، بل لقد أتاح النظام العالمي الجديد مكاسب وفرص في قضايا رئيسية واستراتيجية بالنسبة لليمن وهي:
- تسارع عملية استعادة الوحدة اليمنية بين شطري اليمن.
- إعادة تعريف آلية إدارة العلاقات مع الولايات المتحدة الأمريكية.
- الشراكة الاقتصادية.
- وفي المقابل واجهت اليمن تحدي كبير وهو تحدي مكافحة الإرهاب والشراكة مع الولايات المتحدة في مكافحة الإرهاب.
لا يمكن تجاهل حقيقة أن مؤشرات إنهيار الاتحاد السوفيتي منذ 1988 قد هيأت فرصاً أكبر لاستعادة الوحدة اليمنية بين الشطرين، حلم اليمنيين منذ بداية القرن العشرين ، فبسقوط الاتحاد السوفيتي، انهارت دول هذا الحلف وجعلت قادة الشطر الجنوبي أكثر تحرراً واستعداداً للعمل باتجاه تحقيق الوحدة.
ووجدت الولايات المتحدة من جانب آخر في تحقيق الوحدة اليمنية تحقيقاً لمصلحتها ورؤيتها الاستراتيجية الجديدة، في تصفية آثار التمدد السوفيتي أمنياً وأيدلوجياً، كذلك فإن إنشاء دولة يمنية واحدة يضمن بشكل فاعل تحقيق الاستقرار في جنوب الجزيرة العربية ، فالجمهورية اليمنية تسيطر على نحو 2000 كم2 من الشواطئ في البحر الأحمر والعربي والمحيط الهندي وتسيطر كذلك على مضيق باب المندب الذي يتمتع بأهمية استراتيجية في حماية الملاحة الدولية، بالإضافة إلى الشواطئ المطلة على المحيط الهندي التي تمثل أهمية كبيرة كمنفذ لتصدير النفط بعيداً عن مضيق هرمز وباب المندب، كما أن اليمن الموحد يشكل ثقل سكاني كبير في الجزيرة العربية، مما يعزز الشراكة الاقتصادية.
إن كل هذه الخصائص الجغرافية قد منحت اليمن أهمية استراتيجية في رؤية الولايات المتحدة الأمريكية ، لذلك لم يكن غريباً أن تأييدها ودعمها للوحدة اليمنية إنما يلبي في المقام الأول مصالحها الاستراتيجية.
وقد كانت هذه الرؤية مغايرة لرؤية بعض دول الخليج، التي كانت تتوجس من اليمن الموحد قبل أن يقدم الجانب اليمني تطمينات سياسية وجغرافية لدول الجوار وخاصة السعودية ، وعندما تعرضت الوحدة اليمنية لأول نكسة بسبب الصراع السياسي بين شريكي الحكم وقتذاك المؤتمر الشعبي العام والحزب الاشتراكي ووصلت ذروتها إلى حرب 1994م، وإعلان الإنفصال من قبل نائب الرئيس علي سالم البيض ، وقفت الولايات المتحدة الأمريكية ضد الانفصال ودعمت الوحدة، ولم يكن هذا موقفاً مجانياً، وإنما كان موقفاً متسقاً مع المصالح الاستراتيجية للإدارة الأمريكية التي كانت تخشى من أن فرض الإنفصال بالقوة العسكرية أو هزيمة الرئيس صالح سيشجع الجماعات المتطرفة على التمدد والانتشار في اليمن (19) ، وهذا الموقف كان مغايراً أيضاً لموقف دول الجوار في الخليج التي سعت إلى دعم الانفصال ومحاولة تدويل الانفصال في اليمن، وظلت قطر الدولة الخليجية الوحيدة التي وقفت ضد الانفصال، واتخذت موقفاً داعماً للوحدة، وفي سياق دعم الإدارة الأمريكية للوحدة ورفض الانفصال بالقوة سارعت الإدارة الأمريكية على حث دول الخليج إلى عدم الاعتراف بالانفصال ومنعت قواتها في البحر الأحمر سفينتين مصريتين كانتا محملتين بالسلاح إلى عدن.
وبالرغم من تأييد الولايات المتحدة للتحول الديمقراطي الذي جاء مقترناً بقيام الوحدة اليمنية أو شرط لتأسيسها ، إلا أن دعمها للديمقراطية لم يكن دوماً جاداً ، فقد ارتبط بطبيعة المصالح القومية الأمريكية، فالتحول الديمقراطي ظل في ميزان الاستراتيجية الأمريكية خاضعاً لمستوى الأرباح والخسائر المرتبطة بالمصالح القومية الأمريكية.
وبالتالي فإن العلاقة بينهما هي علاقة طردية، فكلما كان التحول الديمقراطي متسقاً مع الأهداف الاستراتيجية الأمريكية، تكون الديمقراطية مقبولة وتحضى بالدعم والعكس بالعكس.
وتأسيساً على ذلك كان التأييد الأمريكي للتحول الديمقراطي في اليمن واضحاً وجاداً حتى 1998م، مع عدم قابلية تصدير الديمقراطية إلى دول الجوار (خاصة السعودية). لكن هذا التأييد أو الاهتمام بدأ في التناقص مند 2001م، حين أصبحت القضايا الأمنية وقضايا مكافحة الإرهاب تحضى بالاهتمام الأول في الاستراتيجية الأمريكية، وفي حقيقة الأمر، فإن تقليص الهامش الديمقراطي كان قد بدأ منذ 1998م، مع تحول أولويات القضايا الوطنية في أجندة النظام للرئيس السابق علي عبدالله صالح، حيث اختار نظام صالح الاهتمام ببرامج الإصلاح الاقتصادي على حساب برامج الإصلاح السياسي، وبدلاً من أن يكون التحول الديمقراطي هو أساس الشراكة بين اليمن في عهد الرئيس السابق والإدارة الأمريكية، أصبح الإصلاح الاقتصادي هو أداة الشراكة في مكافحة الإرهاب.
كما ، لم تؤد هذه الشراكة في عهد النظام السابق مع الإدارة الأمريكية والمؤسسات الاقتصادية الدولية إلى إصلاح سياسي حقيقي ، بل لقد كانت على حساب التحول الديمقراطي الحقيقي.(20)
فلم تؤدي هذه الشراكة إلى سلطة أقل للدولة في النشاط الاقتصادي وإنما إلى زيادة تسلط الدولة في ظل حكم فردي عائلي. لقد وقع نوع من المبادلة والإحلال – مبادلة الإصلاح السياسي بالإصلاح الاقتصادي أو إحلال الإصلاح الاقتصادي محل الإصلاح السياسي، وكانت المحصلة ضياعهما معاً، فلا ثمار منصفة تحققت من الإصلاح الاقتصادي ولا إصلاح سياسي أحدث تحولاً ديمقراطياً حقيقياً أيضاً .
ولا ينكر أحد أن غياب الإصلاح السياسي كان أحد الجذور الرئيسية لاندلاع ثورة الربيع اليمني في فبراير 2011، والمطالبة بتغيير نظام صالح.
( 3- 3) الشراكة في مواجهة الإرهاب:
كان التطور اللافت في العلاقات اليمنية الأمريكية، هو الاستجابة اليمنية للأولويات الأمنية للولايات المتحدة الأمريكية ، فمنذو 1997م، أصبحت قاعدة الشراكة بين الطرفين هي مكافحة الإرهاب، وأصبح العون الاقتصادي مجرد أداة في هذه الشراكة، ونظرياً فإن هذه الشراكة قد اتكأت بالنسبة للجانب الأمريكي على تقدير المخاطر التي تأتي من الدول الصغيرة، وهي المخاطر التي كان اليمين المحافظ السياسي والديني يؤصل لها فكرياً بمقولات فكرية، تحولت إلى وقود لتركيز الصراع الأمريكي لمكافحة الإرهاب في الدول الصغيرة والضعيفة، فالدول الضعيفة وفقاً لهذه المقولات بمقدورها أن تشكل خطراً عظيماً على مصالح أمريكا القومية مثل الدول القوية وفقاً لرؤية ريتشارد هاس مدير إدارة التخطيط السياسي بالخارجية الأمريكية في عهد بوش(21).
وبالنسبة للجانب اليمني، فقد ارتأى أن هذه الشراكة تمثل مخرجاً له من الصعوبات الاقتصادية والتحديات السياسية التي كان يواجهها النظام الناجمة عن تداعيات مواقفه من أزمة الخليج الأولى والثانية، وهو الأمر الذي سبب علاقات متوترة مع دول الخليج العربي وحصار اقتصادي لليمن غير معلن وقطع للمساعدات.
وعلى المستوى المحلي اقتضت مصلحة النظام السابق أن هكذا شراكة تساعده في التغلب على خصومه السياسيين والتهرب من استحقاقات التحول الديمقراطي الذي كان الشرط الأساسي لقيام الوحدة اليمنية، وعلى خلاف تقديرات دول الجوار ، كانت السياسة الأمريكية أكثر مرونة ، فالضغط المتزايد على اليمن سياسياً واقتصادياً ليس له من عواقب على المدى المتوسط والطويل، وفقاً للرؤية الأمريكية إلا تزايد أنشطة التطرف والمتطرفين، مما يزيد من درجة عدم الاستقرار السياسي ، لذلك كانت هناك مصلحة مشتركة للطرفين في إعادة تلطيف العلاقات اليمنية – الأمريكية، والتمهيد لشراكة أمنية لمواجهة التطرف والإرهاب مع الأخذ بعين الإعتبار أن هناك مكاسب وعوائد متباينة أحياناً لكل طرف ، فهي مثلت فرصة لنظام صالح ، ذلك أن فتح قنوات تعاون وشراكة مباشرة مع الولايات المتحدة، يمكنها من مواجهة الضغوط السياسية والاقتصادية لدول الجوار وتفكيك بؤر الحصار التي كانت مضروبة على نظام صالح، وحتى يكون نظام صالح جديراً بهذه الشراكة، لجأ الجانب اليمني وقتذاك إلى عمل مؤشرات لبناء الثقة في العلاقات اليمنية الأمريكية، ومنها قبول النظام السابق المشاركة في النظام الشرق الأوسطي الذي أعلنه وزير الخارجية الأمريكية، والمشاركة في المؤتمرات الاقتصادية، إضافة إلى دعم مسار التسوية السياسية بين العرب وإسرائيل، كانت تلك المحددات والمؤشرات تفتح الطريق أمام شراكة يمنية أمريكية تقوم في جوهرها على البعد الأمني كأساس لشراكة في مكافحة الإرهاب والتطرف ولم يكن العون الاقتصادي والعلاقات التجارية إلا مجرد أدوات في بناء هذه الشراكة.
كانت باكورة التعاون الأمني قد بدأت منذو 1997 بأول زيارة لوفد أمني أمريكي لليمن، تم الافصاح فيها عن الرغبة الأمريكية في إنشاء دوائر خاصة لمكافحة الإرهاب وإعادة صياغة المناهج العسكرية باتجاه قضية الإرهاب(22) ، وكان من مؤشرات هذه الزيارة سماح نظام صالح بحضور محققين من الشرطة الفيدرالية الأمريكية للتحقيق في قضية جماعة أبي الحسن المحضار وكذلك زيارة الجنرال توماس فارجو قائد الاسطول الأمريكي في البحر الأحمر إلى عدن وصنعاء.
وهكذا بدأت السياسة اليمنية في عهد صالح ومنذو النصف الثاني من عقد التسعينيات في التفاعل مع مقتضيات ومتطلبات الأولويات الأمنية الأمريكية، ومنها بصورة أساسية مكافحة الإرهاب وتأييد مسار التسوية العربية مع إسرائيل.
بيد أن التعاون الأمني تعرض لأخطر امتحان مصداقية بين الطرفين ، بالحادث الذي وقع في يوم الثاني عشر من أكتوبر 2000م، وكان يوماً مفصلياً في تاريخ الشراكة الأمنية فهو اليوم الذي أطلق عليه بيوم حادثة المدمرة الأمريكية (كول) عندما تعرضت لحادث إرهابي أودى بسبعة عشر بحاراً أمريكياً، فبالنسبة للجانب اليمني، مثل هذا الحدث تحدي وفرصة ، فهو تحدي لأنها أظهرت عجز السلطة في اليمن عن ممارسة سلطاتها وأظهرت اجرائاتها المتساهلة وغير الفعالة، على الأقل من وجهة نظر الخارجية الأمريكية ، وقد مثل ذلك الاتهام نكسة للعلاقات اليمنية الأمريكية وبؤرة توتر مستمر، وخاصة عندما أراد نظام صالح أن يُغلق ملف التحقيقات وإحالة المتهمين بحادثة كول إلى القضاء، بينما رفضت الإدارة الأمريكية اغلاق هذا الملف ورأت الاستمرار في التحقيقات.
ومن جانب آخر، مثل ذلك الحدث فرصة لنظام صالح في تعزيز العلاقات وإبداء مزيد من التعاون، في مكافحة الإرهاب، وذلك ما ظهر واضحاً عند تعيين الإدارة الأمريكية سفيراً جديداً لها باليمن هو (ادموند هول) في مايو 2001م، وهو السفير الذي كان يشغل رئيساً لمكتب مكافحة الإرهاب في وزارة الخارجية الأمريكية ، وقد دل ذلك على أن أولوية الإدارة الأمريكية هي أولوية أمنية وأن أجندة السفير الجديد ما هي إلا أجندة أمنية تتعلق بمكافحة الإرهاب ليس إلا.
بيد أن نقطة التحول الكبيرة في مسار الشراكة اليمنية الأمريكية في مكافحة الإرهاب هي احداث الحادي عشر من سبتمبر 2001 وتداعياتها، فقد مثلت طريقاً أحادياً لتطوير هذه الشراكة شكلاً ومضموناً، وبداية فقد سارعت اليمن حكومة وشعباً كغيرها من دول العالم في إدانة وشجب الاحداث الإرهابية التي تعرضت لها الولايات المتحدة الأمريكية.
ومنذ ذلك الوقت ، دخلت اليمن في طور جديد من الشراكة في مكافحة الإرهاب وفتح هذا التعاون آفاقاً وأبعاداً جديدة لتوثيق العلاقات المباشرة مع الإدارة الأمريكية حيث سارع نظام صالح إلى توثيق التعاون الأمني خلال زيارته لواشنطن في نوفمبر 2001م، بررها صالح بتفادي ضربة عسكرية أمريكية، وتم في هذه الزيارة الاتفاق على توقيع اتفاقية لمكافحة الإرهاب، لقد فتحت هذه الشراكة بآفاقها الجديدة فرصاً ومكاسب للشركاء على اختلاف حجم ومستوى الفرص لكل طرف والتي هي بالطبع أكثر لصالح الشريك الأقوى – الإدارة الأمريكية-.
فهي بالنسبة لنظام صالح ستكون فرصة يمكن استغلالها فيما بعد في ترتيب مشروع صالح لتأبيد السلطة وتوريثها وتهميش القوى السياسية المنافسة من خلال تقليص هامش التحول الديمقراطي والحريات العامة والخاصة.
وقد ساعده على ذلك، متطلبات التعاون الأمني التي تقضي أن تتولى الإدارة الأمريكية تدريب وحدات الحرس الجمهوري –وهي قوات النخبة التي كان يقودها ابنه أحمد فيما بعد، إضافة إلى إنشاء جهاز الأمن القومي ، والقوات الخاصة بمكافحة الإرهاب ، وفتح مكاتب للمباحث الفيدرالية والمخابرات الأمريكية (CIA) (23)، وقد تم ذلك في ظل مخاوف أمريكية من أن يستخدم صالح هذه المعدات والأجهزة لمصلحة نظامه ، وضد خصومه السياسيين ، عوضاً عن استخدامها في أهدافها الأساسية المتمثلة في مكافحة الإرهاب، لذلك ظلت الإدارة الأمريكية ترقب ذلك بحذر.
وأياً كان الأمر فإنه وفقاً لهذا الاتفاق، تم اعتقال عدد من عناصر القاعدة كما بلغ التعاون ذروته بسماح نظام صالح للطائرات الأمريكية بدون طيار بقتل عناصر القاعدة داخل الأراضي اليمنية، وقد كانت باكورة هذا العمل قتل الطائرة بدون طيار لأبي علي الحارثي في مأرب في 2009، وهي الحادثة التي أثارت جدلاً واسعاً بين اليمنيين حول مسائل التفريط بالسيادة اليمنية. وقد تتابعت عملية قتل القاعدة بطائرة دون طيار وزادت وتيرتها مع إعلان الرئيس هادي الحرب التي لا هوادة فيها مع القاعدة، رغم معارضة الرأي العام اليمني لهذه الطريقة وسقوط ضحايا أبرياء فيها.
يمكن القول ، أن استراتيجية الشراكة الأمنية في مكافحة الإرهاب خلال الفترة 2001 – 2009م، اتخذت أوجه التعاون الآتية(24):
- تدريب وتأهيل قوات الحرس الجمهوري والوحدات الخاصة.
- تطوير خفر السواحل وحراسة الحدود بمساعدة أمريكية.
- تقديم تسهيلات للعمليات –العسكرية الأمريكية ضد الإرهاب- ومنها تدخل عسكري مباشر في أبين 2009م.
- السماح لطائرات بدون طيار بقتل عناصر القاعدة داخل الأراضي اليمنية .
وعلى أية حال فأن طبيعة الشراكة والتعاون الأمني في مكافحة الإرهاب خلال إثنى عشر سنة (1998 – 2010 ) كانت له دلالات عميقة الأثر على العلاقة من حيث الآتي:
1. إن هذا النوع من الشراكة يندرج في سياق الشراكة غير المتكافئة، التي اعتمدت على مقولات اليمين المحافظ في أمريكا التي حددت أن مصادر الخطر بالنسبة للولايات المتحدة إنما يأتي من الدول الصغيرة والضعيفة تماماً كما يأتي الخطر من دول كبيرة أخرى، إضافة إلى أن التحولات السياسية الداخلية في اليمن خلال تلك الفترة كانت مصدر قلق ومخاوف أمريكية جعلت الإدارة الأمريكية في مواجهتها للإرهاب تركز على اليمن باعتباره أحد الدول التي تمثل ملاذاً آمناً أو مصدراً لعناصر القاعدة.
2. ومن جانب آخر فإن دفع اليمن إلى الانخراط في الاستراتيجية العسكرية والأمنية الأمريكية قد مثل عنصراً مهماً في إطار المنظور الشامل لترتيب الأوضاع في الجزيرة والخليج، فاليمن بموانئه وسواحله وشواطئه له أهمية استراتيجية في توفير الدعم اللوجستي للوجود الأمريكي العسكري.
وقد أضاف إلى هذه الأهمية القلق الأمريكي من تداعيات التقلبات في مصادر التهديد المرتبطة بالأمن الاجتماعي الداخلي في دول الخليج والسعودية على وجه الخصوص على حكوماتها من جهة، وعلى الجنود الأمريكيين ومراكز القيادة العسكرية من تعرضها لهجمات الجماعات الإرهابية من جهة أخرى. لذلك كان اختيار اليمن هو الموقع المناسب البديل لمواجهة تلك التقلبات في دول الخليج.(25).
وبطبيعة الحال، فإن الخصائص الجغرافية والبحرية لليمن، قد جعلت اليمن بلداً مهماً في الاستراتيجية الأمنية الأمريكية، بالنظر إلى حاجات الوجود والمرور للقوات الأمريكية في إطار استراتيجية بوش للضربات الوقائية العسكرية في حرب الإرهاب.
وهي الاستراتيجية التي حددت صادر المخاطر القادمة من دول الشرق الأدنى الكبير ومنها العالم العربي وإسرائيل وتركيا وإيران وباكستان والدول الإسلامية المستقلة عن الاتحاد السوفيتي السابق وكذلك الهند.
وكان التقرير الأمريكي الصادر عن الإرهاب في 1999م، قد صنف معظمها كدول إرهابية أو مؤيدة للإرهاب أو أنها تمثل ملاذاً أو حاضناً للإرهاب.(26).
3- إن حالة عدم تكافؤ الشراكة الأمنية زادت حدةً بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001، فقد كانت أقرب إلى شراكة الإذعان، وأصبح اليمن كغيره هو متلقي الضغوط والتوجيهات الأمريكية في تنفيذ ما هو مطلوب منه من جانب واحد.
مما كان لذلك تداعيات على شفافية وسلامة هذه العلاقة ومن أبرز تداعياتها، سرية الاتصالات بين المؤسسات الأمنية لدى الطرفين، وعدم الإفصاح عن طبيعة الزيارات بين الطرفين، واحتكار ملفات هذا التعاون بين الرئيس السابق صالح وأفراد عائلته.
4- بالرغم أن العون الاقتصادي الأمريكي كان هو الأداة المحفزة للشراكة الأمنية في مكافحة الإرهاب، إلا أن العون الاقتصادي الأمريكي لم يكن عند ذلك المستوى المتوقع من جانبين:
• تواضع مقدار العون، فقد ارتفع من خمسة مليون دولار فقط في 2006م، إلى نحو مائة وخمسون مليون دولار في 2011م، خصص معظم هذا العون في تمويل المتطلبات الأمنية والعسكرية التي شكلت قصب الرحى في علاقة اليمن بأمريكا.
إضافة إلى أن العون الاقتصادي لم يكن حراً طليقاً وإنما مقيداً بطلبات وشروط أمريكية ليس أقلها إعطاء حق الوصول غير المقيد للعمليات الأمريكية داخل الأراضي اليمنية مع تعهد النظام اليمني السابق بتحمل تبعات تلك الهجمات والإعلان للرأي العام اليمني بأن القوات اليمنية هي من تنفذ ذلك.
• ومن جانب آخر ، توقع الجانب اليمني أن يحصل على دعم الولايات المتحدة الأمريكية بما لها من تأثير على المؤسسات الاقتصادية الدولية كالبنك الدولي وصندوق النقد والدول الإقليمية والغربية في دعم اليمن في مسار الإصلاح الاقتصادي الذي اتخذه النظام السابق مخرجاً وحيداً لأزماته السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي تفاقمت في السنوات الأخيرة، وهي تداعيات رأت فيها الإدارة الأمريكية مؤشرات لفشل الدولة وإنهيارها، ولما لذلك من مخاطر محدقة بأمن الولايات المتحدة من حيث تمدد وانتشار القاعدة في ظل دولة ضعيفة وفاشلة في اليمن ، وتفادياً لوقوع هذه الإرتدادات والتداعيات أصبحت الإدارة الأمريكية أكثر انشغالاً بالحالة اليمنية الداخلية.
حيث ركزت الإدارة الأمريكية على مزيد من التدخل السياسي من خلال التوسط لإيجاد توافق بين أحزاب المعارضة ونظام صالح في ظل الأزمة التي زادت تفاقماً منذ الانتخابات الرئاسية في 2006م، وصولاً إلى رعاية اتفاق فبراير 2009م، بين سلطة صالح وأحزاب اللقاء المشترك، القوة المعارضة الرئيسية في البلاد.
كما شاركت الإدارة الأمريكية مع الدول الأوروبية في حشد دول الاقليم ودول الاتحاد الأوروبي لتنظيم مؤتمر دولي عقد في لندن تحت مسمى أصدقاء اليمن لحشد الدعم الاقتصادي والسياسي لليمن لتفادي إنهيار وفشل الدولة.
وللتذكير ، فإن الإنشغال الأمريكي بالشؤون السياسية الداخلية في اليمن كان صدى لاستراتيجية الدفاع القومي التي أعلنها البنتاجون في 2008م، وهي الاستراتيجية التي حددت مصادر الخطر على الأمن القومي الأمريكي.
ومن ذلك مواجهة الاضطرابات وفشل الدولة الذي يشكل تهديداً للأمن القومي الأمريكي، لذلك لم يكن غريباً أن الاستراتيجية الأمريكية الموجه في إطار العالم العربي والإسلامي اتخذت منهج عسكرة السياسة الخارجية ودعم أنظمة اقتصادية واجتماعية تتساوق مع المصلحة الأمريكية وبما يمكنها من التحكم في موارد هذه البلدان، وتحقيق السيطرة الشاملة على المواقع الاستراتيجية ومنها اليمن(28).
وفي هذا السياق ، عينت الإدارة الأمريكية سفيراً جديداً لها في اليمن هو "توماس كراجيسكي" الذي حمل أجندة سياسية واقتصادية أبرزها الإصلاحات الاقتصادية وأجندة اصلاح الشرق الأوسط الكبير ومتطلبات منتدى المستقبل للدول الثماني الكبرى، ورغم ذلك إلا أن جوانب التعاون الأمني والعسكري كانت تحضى بالأولوية والاهتمام والمقام الأول.
حيث اتخذت العلاقات الأمنية بين الطرفين اتجاهاً جديداً تمثل في استخدام استراتيجية المسائلة الأمريكية لنظام صالح، حول مدى جديته في مكافحة الإرهاب هذا الاتجاه الجديد كان سببه تعرض العلاقة الأمنية اليمنية الأمريكية لانتكاسة أخرى في فبراير 2006م، عندما فر نحو 23 عنصراً مسجوناً على ذمة تفجير المدمرة الأمريكية.
5- من الجانب اليمني، لم تكن العلاقات الأمنية اليمنية الأمريكية في مكافحة الإرهاب تخضع لقواعد ومعايير مؤسسية وإنما خضعت لاعتبارين:
• الاعتبار الشخصي والرؤية الشخصية الفردية لنظام صالح لأهداف وأولويات السياسة الخارجية اليمنية مع الولايات المتحدة الأمريكية ، بل إن تحديد أهداف ومتطلبات السياسة الخارجية اليمنية في الوثائق الرسمية كان خاضعاً لتقديرات واعتبارات الرئيس واهتماماته الشخصية، بالرغم من أن أهداف النظام السياسي في اليمن وكما يؤكد ذلك الدستور اليمني هي الحفاظ على وحدة اليمن وسلامته واستقلال قراره السياسي.
• الاعتبار الثاني ، أن العلاقات لم تكن في الأساس علاقات ندية، إلا أن نظام صالح قد حاول استيعاب المصالح الأمريكية وفقاً للتقديرات والاعتبارات التي تضمن له تحقيق مصلحته الشخصية أيضاً.
لذلك ، لم تكن مؤشرات وطبيعة ودقائق هذه العلاقة معروفة تماماً للرأي العام اليمني في ظل بقاء جوهر ومضمون هذه العلاقة سرية في ملفاتها الأمنية والعسكرية والسياسية ، هذه السرية والشخصنة للعلاقات هي ما أوجد نوعاً من عدم الثقة وتبادل الإتهامات حول مدى جدية النظام اليمني في مكافحة الإرهاب من وقت لآخر وهيأ مناخات لتبادل الشكوك بين الطرفين حول مصداقية التعاون في مكافحة الإرهاب ، وهي الحالة التي عبر عنها نائب الرئيس الأمريكي السابق بنيل خوري في 2007م، ورأى أن ردم فجوة الشكوك يكمن في اخضاع العلاقات اليمنية الأمريكية للنقاش المؤسسي وللشفافية تحاشياً للانحدار وانتقاداً للنهج الشخصي والسرية وعدم الثقة.(29)
6- بات من الواضح أن تركيز العلاقات اليمنية الأمريكية على القضايا الأمنية والعسكرية المكرسة لمكافحة الإرهاب قد تم على حساب تراجع الاهتمام الأمريكي بقضايا التنمية السياسية والحريات والتحول الديمقراطي.
فلم يعد التحول الديمقراطي يشكل أولوية في الاستراتيجية الأمريكية في علاقاتها باليمن كما كان الحال، عند إعلان الجمهورية اليمنية في 1990م، وحتى 2001م، تقريباً.
لقد أصبحت الديمقراطية مجرد مسألة اخلاقية يذكر بها المسؤولون الأمريكيون كلما أرادو أن يجددو الغطاء السياسي للعلاقات الأمنية الأمريكية، وبالتالي فلم تعد قضية ملزمة لهم في اليمن كما ، ولم يكن مهماً للإدارة الأمريكية أن تبدو سياساتها متناقضة أو متحولة بين وقت وآخر، فأحداث 11/9 مثلاً قد جعلت الرئيس بوش يتبنى استراتيجية القوة الخشنة القائمة على ما ينبغي أن يكون، وشخصت جذور التطرف في المنطقة العربية بالاستبداد وغياب الحقوق والحريات، وتبنت بالتالي نشر الديمقراطية.
وعلى رغم أهمية هذا التشخيص بأن جذور الإرهاب هو الاستبداد، إلا أن التطبيق العملي لدعم الديمقراطية في العالم العربي لم يكن جاداً، كما أن هذا النسيج التشخيصي على أهميته لم يكن قابلاً للاستمرار حتى من الناحية النظرية، فما كان لافتاً للنظر هو أن تلك الرؤية قد مثلت تطوراً ملحوظاً في منظور الرؤية الأمريكية التقليدية للأوضاع في المنطقة العربية، رغم التباين الشديد بين التنظير والتطبيق في ممارسة السياسة الأمريكية، ورغم إعلانات بوش المتكررة حول الديمقراطية ومنها:
مبادرة تحدي الألفية التي أعلنها الرئيس بوش نفسه أمام النخبة الأمريكية في 24 مارس 2002م، وعبر فيها عن اهتمام أمريكي جديد بالتحول الديمقراطي عندما ربط التنمية بالإصلاح السياسي وأعلن أن التنمية مشروطة بالإصلاح السياسي كما تبنى مفهوم الاستراتيجية المتقدمة للحرية.
وفي رؤية بوش فإن الإصلاح الديمقراطي بات في قمة الأولويات الأمريكية ويتكئ على العناصر والمبادئ الآتية:
• دعم التحول الديمقراطي بإطلاق الحريات وتحقيق المشاركة الواسعة وتحقيق الحكم الصالح .
• اقتصاد السوق الحرة وتوسيع الفرص الاقتصادية.
• مجتمع المعرفة والدور الكبير لمنظمات المجتمع المدني.
ورغم هذه الشعارات والمبادئ إلا أن اهتمام الإدارة الأمريكية بنشر الديمقراطية قد تراجع وخاصة، عندما أتت الديمقراطية بالإسلاميين، وتراخى بالتالي الضغط الأمريكي على الأنظمة فيما يتعلق بالتحول الديمقراطي ومنها اليمن.
وفي حقيقة الأمر، كان الاهتمام الأمريكي بنشر الديمقراطية حتى في عهد بوش انتقائياً ومتحيزاً ، حيث مورست ضغوط كبيرة على الأنظمة التي على عداء أو تناقض مع السياسة الأمريكية بالتحول الديمقراطي ، فيما لم يكن الأمر كذلك بالنسبة للأنظمة الصديقة للولايات المتحدة واليمن واحداً من هذه الدول الصديقة.
فقد كان واضحاً أن القضايا الأمنية والتعاون في مكافحة الإرهاب لها الأولوية ومقدمة على دعم قضايا الديمقراطية والحريات وحقوق الإنسان في اليمن، ولذلك لم يكن غريباً تأجيل الانتخابات الرئاسية في 2008م، لمدة سنتين في ظل تعثر الحوار بين قوى المعارضة والنظام السابق على أجندة الإصلاحات السياسية والديمقراطية التي تم التوقيع عليها في 15 يونيو 2007م.
وحينها اكتفت الإدارة الأمريكية بوساطة المعهد الديمقراطي للشؤون الدولية، والذي فشل في النهاية في تحقيق التوافق بين المعارضة والسلطة بسبب انحياز مدير المعهد لوجهة نظر نظام صالح.
كما كان لافتاً للنظر من جهة أخرى، ما ظهر من تراجع أمريكي في الاهتمام بقضايا الديمقراطية أثناء لقاء قيادات منظمات المجتمع المدني اليمنية في مارس 2008م، مع باحثين من لجنة الدفاع والأمن في الكونجرس الأمريكي، إضافة إلى ما تم رصده من سلوك انتهازي من الجانب الأمريكي في جعل مسألة الديمقراطية مجرد أداة لخدمة استراتيجية الحرب على الإرهاب .
وقد انعكس هذا التصرف والسلوك على مستوى الاهتمام المتدني بقضايا الحقوق والحريات وانتهاكات حقوق الإنسان كما انعكس على مستوى التذبذب والمراوحة والتناقض في المواقف الأمريكية في قضايا الإصلاح السياسي والديمقراطي والانتخابات، واكتفت الإدارة الأمريكية وبعض المؤسسات الفكرية بالإعراب عن قلقها لانتهاكات حقوق الإنسان في اليمن وتراجع التحول الديمقراطي ، ومن ذلك تقرير معهد السلام الأمريكي الصادر في بداية 2010م، والذي أشار فيه إلى القلق الأمريكي من تردي الأوضاع الأمنية في اليمن وقدم توصيفاً صريحاً لهذا التردي، وأرجعه إلى وجود نظام حكم استبدادي يصعب الدفاع عنه بشكل متزايد، فهو نظام (نظام صالح) يتكئ على سياسة فرق تسد وعلى الفساد ونظام المحسوبية والتلاعب بالمؤسسات الديمقراطية الضعيفة بهدف تأييد سلطة صالح (30).
7- في عهد إدارة أوباما ، شهدت العلاقات الأمنية الأمريكية اليمنية تطوراً أكثر عمقاً وحدة، فقد أصبحت اليمن تمثل الجبهة الرابعة في الحرب على الإرهاب وفقاً لتوصيف الإدارة الأمريكية في 2009م، ويعكس هذا التوصيف زيادة حدة ونطاق العمليات العسكرية الأمريكية في اليمن ومن خلال الطائرات بدون طيار ، إضافة إلى التعاون فيما يتعلق بتبادل المعلومات والعمل الاستخباراتي حول المطلوبين من عناصر القاعدة وقياداته التنظيمية في اليمن والخليج.
وقد انعكس مستوى هذا التعاون على حجم العون الاقتصادي المقدم لليمن والذي بلغ نحو 150 مليون دولار أو أكثر وجله موجه لدعم العمليات الأمنية والعسكرية ضد القاعدة، ورغم ذلك المستوى المتقدم من التعاون بين الطرفين، إلا أن هذا لم يمنع من مؤشرات انتكاسة في مسار العلاقات اليمنية، خلال الفترة (2008 – 2010م) ومنها:
- إضطراب عملية التنسيق بين الأجهزة الأمنية وقلق الجانب الأمريكي من طريقة الشك أو اللامبالاة من الجانب اليمني في تقدير أهمية المعلومات الاستخباراتية المتبادلة .
- تصاعد حروب صعدة التي مثل الحوثيون طرفها الآخر والتباين في تقييم طبيعة الحرب بين الإدارة الأمريكية ونظام صالح.
فمن وجهة النظر الأمريكية فإن استمرار حرب صعدة تؤثر سلباً على فاعلية وكفاءة الجيش اليمني في مكافحة الإرهاب، فإضعاف الجيش اليمني بحروب صعدة يُضعف سيطرة الدولة على أراضيها، مما يساعد في إنتشار الجماعات الإرهابية، ولذلك رفضت الإدارة الأمريكية طلب الرئيس السابق (صالح) بإدراج جماعة الحوثيين ضمن قوائم الجماعات الإرهابية، عندما كان الرئيس السابق يرى أن إدراج جماعة الحوثيين كجماعة إرهابية يجعل الحرب ضد هذه الجماعة تندرج في إطار استراتيجية الحرب على الإرهاب، ولكنه فشل أثناء زيارته لواشنطن في إقناع الرئيس أوباما في مايو 2007م ، في تبلية هذا الطلب.
وقد كان هذا التباين بين الجانب اليمني والأمريكي في تكييف طبيعة الحرب في صعدة من الدوافع الرئيسة التي جعلت نظام صالح يدعو إلى الحوار مع الحوثيين والتوصل إلى اتفاق لوقف الحرب برعاية قطرية.
لكن المفارقة العجيبة في هذا المسار، أنه ما إن تم تهدئة جبهة الحرب في صعدة حتى ظهر كيان جديد في المحافظات الجنوبية أطلق على نفسه جمعية المتقاعدين العسكريين، دعت هذه الجمعية إلى مظاهرة 7 يوليو باللباس العسكري في عدن من أجل مطالب حقوقية، وهي الحركة التي تطورت فيما بعد إلى حركة احتجاج سلمي واسعة في المحافظات الجنوبية أطلق عليها بالحراك الجنوبي السلمي.
ومن جانبها كثفت القاعدة من عملياتها العسكرية الخاصة، في مواقع مختلفة ، وكان نظام صالح قد قدم توصيفاً للنطاق الجغرافي الذي تنشط فيه عمليات القاعدة، حيث اعتبر محافظات شبوة وأبين وحضرموت تمثل ملاذات وحواضن لجماعة القاعدة، وجاء هذا التوصيف بعد انضمام طارق الفضلي للحراك الجنوبي، مما جعل الجانب الأمريكي يركز عملية مطاردته لعناصر القاعدة في هذه المناطق، ويلاحظ كثير من المراقبين أن الأحداث والوقائع المتعلقة بمكافحة الإرهاب خلال هذه الفترة، أنها قد اتسمت بقدر كبير من الغموض في التعاون الأمني وأبانت حجم الاختلالات الأمنية وتشابك الجهات المؤثرة في استراتيجية الحرب على الإرهاب في اليمن، ومن أبرز مؤشرات هذا التشابك والإضطراب ما أعلنه أيمن الظواهري في 2008م، عندما قدم شكره للقيادة الإيرانية لتعاونها في تنفيذ العمليات الموجهة ضد المصالح الغربية في اليمن.(31).
وبصورة عامة ، فإن تفاقم الاختلالات الأمنية وتوسيع نشاط القاعدة وظهور الجماعات المطلبية التي تعمقت باحتقانات اقتصادية واجتماعية وسياسية فشل النظام السابق في استيعابها ، كانت الجذور التي ساقت إلى ثورة التغيير في 11 فبراير 2011م، في إطار ثورة الربيع العربي على الأنظمة المستبدة.
رابعاً : العلاقات اليمنية الأمريكية في مرحلة الربيع العربي
( 1 – 4 ) مقدمات ثورة الربيع اليمني
كانت التطورات والوقائع والأحداث الاقتصادية في اليمن قد بلغت أقصى ذروتها قبل اندلاع ثورة التغيير السلمية في اليمن في 11 فبراير 2011، فاليمن كغيرها من بلدان الربيع العربي، كانت تعاني من احتقانات شديدة اقتصادية وسياسية واجتماعية، متراكمة منذ ثلاثة عقود وقد انعكست هذه الاحتقانات على فشل الحوار السياسي بين السلطة (نظام صالح) والمعارضة ممثلة بأحزاب اللقاء المشترك، وكذلك على تزايد أنشطة الجماعات المطلبية (الحراك الجنوبي السلمي) والجماعات المسلحة (جماعة الحوثي) وكذلك تزايد أنشطة القاعدة.
ولم تألو التقارير المحلية والعالمية خلال الفترة 2009 – 2010، في التحذير من فشل الدولة أو احتمال انهيارها في اليمن، حيث لم يتمكن نظام صالح من استيعاب واحتواء التداعيات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والأمنية، وفشل في التعامل معها بشكل صحيح وواقعي.
ومن جهة أخرى ، نظرت القوى السياسية المعارضة والمكونات الاجتماعية الأخرى، إلى العواقب الخطيرة لهذه التداعيات ومنها الخطر الأكبر المتمثل في انهيار الدولة.
لذلك ، استجابت القوى السياسية وتفاعلت مع الحراك الشعبي العام الذي أصر على التغيير السلمي، لم يكن هناك خياراً إلا في المقايضة بين الانتظار حتى تنهار الدولة أو انقاذ الدولة بتغيير النظام، وفي حقيقة الأمر فإن هذه الثورة الشعبية لم تكن إلا تعبيراً صادقاً عن حقيقة الصراع بين النخبة المتسلطة من جهة وبين قوى المجتمع السياسية والاجتماعية، وفي مقدمتهم شباب الثورة من جهة أخرى، حيث بات واضحاً أن الأنظمة الديكتاتورية ومنها اليمن تسير بشكل متسارع نحو مزيد من السلطة المطلقة بتأبيدها وتوريثها للأبناء وكذلك الاستحواذ على الثروة، فجمعت في ذلك بين السلطة المطلقة والاستحواذ على الثروة.
وقد اتكأت هذه الأنظمة على مقولة التلازم بين الاستقرار والاستبداد أي مبادلة الفوضى المزعومة بالاستقرار الذي لا يتحقق إلا بالاستبداد (32) ، شكلت هذه المقولة أساس علاقة الأنظمة المستبدة بالقوى الخارجية، بل أنها مثلت جوهر الاستراتيجية الأمريكية والتي على أساسها نسجت الإدارات الأمريكية المتعاقبة علاقاتها مع أنظمة الاستبداد ، باعتبارها المقولة التي تشكل الضمان الرئيسي للمصالح الاستراتيجية للولايات المتحدة الأمريكية في العالم العربي والإسلامي، وفي صدارة هذه المصالح أمن إسرائيل وتأمين امدادات النفط، في إطار مظلة مكافحة الإرهاب.
لكن ثورة الربيع اليمني كغيرها من ثورات الربيع العربي قد اسقطت مقولة الاستقرار بالاستبداد واستبدلته بمقولة الاستقرار بالعدل والديمقراطية الحقيقية وحكم الشعب، ولإن كانت ثورة الربيع اليمني قد اكتسبت سمات وخصائص ثورات الربيع العربي إلا أنها تميزت بخصوصية واضحة، فالثورة اليمنية جمعت بين مسارين : مسار الفعل الثوري الذي قاده شباب اليمن ومسار العمل السياسي الذي قادته أحزاب اللقاء المشترك فالمجلس الوطني لقوى التغيير السلمية، ومع كل ذلك لم تكن الموائمة بين مرئيات العمل السياسي ومرئيات المسار الثوري عملية سهلة.
بل كانت مليئة بالتعقيدات والصعوبات والشكوك في كثير من الأحيان، حتى شاع القول ، بأن ثورة الربيع اليمني لم تكن إلا نصف ثورة أو ربعها، ومنهم من قال لقد سرقت الثورة، هذه المقولات لم تكن إلا ارتدادات لتفاعلات المسار السياسي للثورة، الذي لم يعد شأناً خاصاً بقوى العمل السياسي الوطني(33)، بل كان شأناً أيضاً مهماً للقوى الإقليمية والدولية وفي مقدمتها الولايات المتحدة الأمريكية والمملكة العربية السعودية، فقد كان واضحاً أن هناك قلقاً اقليمياً ودولياً من مسار ثورة التغيير السلمية في اليمن، ولم تكن محددات الاستقرار والمصالح الاقليمية والدولية هي الرافعة الوحيدة لهذا القلق ، بل كانت هذه القوى تبحث عن دور لها في مسار هذا التغيير ، بغية التحكم في نتائجه، وفي سياق استراتيجيات القوى الدولية للتكيف مع ثورات الربيع العربي بدلاً من مجابهتها، أو الوقوف الصريح أمام تطلعات الشعوب العربية في التغيير ، وكان واضحاً أيضاً أن هذا النمط من السلوك يحقق لهذه القوى مسألة التحكم أو الشراكة في اقتسام نتائج ثورات الربيع العربي واليمن واحدة منها.
(2 – 4 ) القلق الأمريكي : معادلة الربيع اليمني وخطر الإرهاب:
يمكن القول أن مصادر القلق الأمريكي من تداعيات الأوضاع السياسية والاقتصادية والأمنية يكمن في اليمن في أمرين هما :
• ضعف الدولة وفشلها، وهي الحالة التي توفر للقاعدة فرصاً سانحة للسيطرة والانتشار.
• تداعيات ثورة الربيع اليمني وامكانية قيام نظام جديد قد لا يكون متحمساً أو راغباً أو متفاعلاً مع أولويات الاستراتيجية الأمنية الأمريكية في اليمن.
علاوة على ذلك فإن تداعيات ثورة الربيع اليمني على زيادة الهشاشة الأمنية سيزيد من امكانية تمدد القاعدة وانتشارها، وفقاً للتقديرات الأمريكية، وقد عزت بعض الوقائع والمؤشرات من قناعة الإدارة الأمريكية فيما يتعلق بهشاشة الوضع الأمني قبل ثورة الربيع اليمني، حيث بلغت ذروتها بمحاولة القاعدة تفجير الطائرة الأمريكية فوق مدينة ديترويت الأمريكية عشية رأس السنة الميلادية في ديسمبر 2009، وكذلك محاولة إرسال طرود مفخخة من اليمن إلى أمريكا في نهاية 2010م.
ولذلك لم يكن غريباً أن الحضور الأمريكي في اليمن كان أكثر كثافة قبل سنتين من اندلاع ثورة التغيير اليمنية، لذلك اتبعت الإدارة الأمريكية في سياق تفاعلها مع أحداث الربيع اليمني مقاربات مختلفة تتطور مع تطور الأحداث في اليمن، وفيما يلي نقدم توصيفاً للمقاربات الأمريكية:
1- مقاربة انقاذ نظام صالح.
عشية حادثة ديترويت بادرت الإدارة الأمريكية مع بريطانيا والدول الأوروبية الأخرى ودول الاقليم إلى تنظيم مؤتمر دولي في لندن (يناير 2010) خاص بدعم اليمن، انتج تشكيل مجموعة دولية سميت مجموعة أصدقاء اليمن ، وبالرغم من اهتمام هذا المؤتمر بالتحديات الاقتصادية ، إلا أن المؤشرات المختلفة دلت على أن التحديات التي تواجه اليمن هي أكثر عمقاً مما تظهره المؤشرات الاقتصادية لوحدها ، فالاختلالات والتحديات المقلقة من وجهة النظر الأمريكية هي تحديات تتعلق بهشاشة الدولة ، وضعف بنيانها المؤسسي والإداري والسياسي، فالهاجس الأمني للإدارة الأمريكية كان الأكثر حضوراً في هذا المؤتمر وكذلك لدى الدول الغربية وهو القلق الغربي الذي عبرت عنه بوضوح هيلاري كلنتون وزيرة الخارجية الأمريكية ، ووضعت له حداً أقصى يصل إلى تهديد الإستقرار الاقليمي والعالمي ، ومن جانب آخر عبر وزير الخارجية البريطاني السابق ديفيد ميلباند عن مدى خطورة الوضع الاقتصادي على الاستقرار في اليمن قائلاً: بكل بساطة لا يمكن إعادة الاستقرار إلى اليمن في وقت لا يعلم أكثر من نصف سكانه من أين ستأتيهم وجبة الطعام القادمة.
لذلك سعت الإدارة الأمريكية إلى حشد عون اقتصادي يسهم في إنقاد النظام اليمني من الإنهيار.
أما البعد الثاني في مقاربة إنقاذ النظام فقد تركز على اتباع الإدارة الأمريكية نهج التوفيق بين قوى المعارضة والسلطة، حيث شجعت الحوار بينهما بهدف الوصول إلى رؤية مشتركة لإجراء تغيير أو تعديل في بنية وهيكل النظام السياسي تمنعه من السقوط الذي سيكون في النهاية في مصلحة القاعدة (وفقاً للرؤية الأمريكية). فمقاربة انقاذ النظام بالنسبة للإدارة الأمريكية كانت تعني لهم إبقاء النظام قادراً أو فاعلاً في استراتيجية مكافحة الإرهاب، لذلك اتكأت استراتيجية الانقاذ الأمريكي أيضاً على زيادة الأنشطة الأمنية الأمريكية في اليمن، والدول المجاورة وزيادة مستوى التنسيق مع الأجهزة الأمنية والوحدات العسكرية اليمنية التي يقودها أقرباء صالح. (34).
بيد أن طرق الحوار بين المعارضة والسلطة كانت قد سُدت من قبل نظام صالح، وفي هذه الأجواء كانت ثورة الربيع العربي قد انفجرت في تونس وتلتها مصر ، وأعقبها تصاعد مؤشرات وطلائع ثورة الربيع اليمني، وفي سياق هذه التطورات كان منسوب القلق الأمريكي يتزايد، ولذلك اهتمت الإدارة الأمريكية بجس نبض قوى المعارضة السياسية اليمنية ومدى قدرتها على بلورة بديل للرئيس علي عبد الله صالح.
وهو القلق الذي عبرت عنه هيلاري كلنتون في لقائها مع المعارضة اليمنية ومنظمات المجتمع المدني ووجهت لهم سؤالاً محدداً يتعلق بما إذا كان لديهم رؤية واضحة للبديل(35).
أما البعد الثالث في استراتيجية الانقاذ هي المراوحة في الموقف بين قوى الثورة ونظام صالح ، أو مسك العصا من الوسط، فمع انطلاق ثورة الربيع اليمني بدت إدارة أوباما مرتبكة وقلقة وحذرة وإزاء خروج الشعب اليمني إلى الشوارع كررت هذه الإدارة دعوتها للفرقاء السياسيين بالعودة إلى الحوار بعد أن شجعت الرئيس صالح على الإعلان عن تجميد التعديلات الدستورية، في 2 فبراير 2011م، وهي التعديلات التي كانت تشرعن لتأبيد السلطة وتوريثها، وحثت الإدارة الأمريكية صالح على أن يترجم هذا الإعلان إلى أفعال ممارسة في الواقع وتضمن هذا التشجيع دعم أوباما لإعلان صالح، ولكن كانت الأوراق السياسية للأطراف المختلفة مختلطة ، فقد جاء إعلان صالح وتأييد الإدارة الأمريكية لها في ظل توقعات شعبية يمنية من جهة وتوقعات مراكز بحثية أمريكية من جهة أخرى بقرب سقوط صالح.
ومع تصاعد وتيرة الفعل الثوري السلمي لشباب اليمن ومقابلتها باستخدام العنف والقمع الدموي من سلطة صالح، مالت الإدارة الأمريكية إلى مسك العصا من الوسط، فهي من جهة تدين عنف السلطة – العنف المفرط - ، وهي من جهة أخرى تدعو الثوار إلى عدم تحرش السلطة وتحملها مسئولية وقوع ذلك.
ظل الموقف الأمريكي عند مسك العصا من الوسط حتى بعد وقوع مجزرة الجمعة الدامية – مذبحة جمعة الكرامة في 18 مارس 2011م، والذي استشهد فيها نحو 53 شاب من شباب الثورة بنيران سلطة صالح، وكان مما يقلق الإدارة الأمريكية حتى بعد هذه الأحداث هو خشية أن تغطي أحداث الثورة اليمنية على أهمية التعامل الجاد مع تنظيم القاعدة، فوفقاً لوزير الدفاع الأمريكي روبرت غيتس في رده على سؤال صحفي، بأنه ما زال يعتقد أن فرع القاعدة في اليمن هو الأخطر في الوقت الحالي. وهو نفس الاتجاه الذي أشار إليه مدير الاستخبارات الأمريكية (جيمس كلاير) قائلاً "أن تدهور الحكم ، سيشمل تحديات خطيرة للمصالح الأمريكية والاقليمية بما في ذلك أنه سيجعل تنظيم القاعدة في وضع أفضل يسمح له بتدبير وتنفيذ اعتداءات" (36).
لكن لم يكن هذا الموقف يستطيع إخفاء القلق الأمريكي من تصاعد الثورة في اليمن وتداعياتها المتسارعة على سقوط صالح من السلطة، لذلك اتبعت الإدارة مقاربة أخرى، وهي استراتيجية التكيف واقتسام نتائج الثورة بالتأثير على مسارها.
2- استراتيجية اقتسام نتائج الثورة (تكيف – أو احتواء)
عندما رأت الإدارة الأمريكية أن الأحداث في اليمن تسير لصالح الثورة الشعبية السلمية، اتجهت نحو مقاربة التكيف مع نتائجها وفي الاتجاه الذي يؤدي إلى احتوائها واقتسام نتائج الثورة بما يخدم مصالحها الاستراتيجية التي على قمتها مواجهة مكافحة الإرهاب في اليمن.
وقد اتكأت هذه الاستراتيجية على إعادة تقييم لمآلات الأحداث في اليمن والعمل من خلال ثلاثة أبعاد:
- فمن جهة، لم يعد مناسباً مقاربة انقاذ أو الدفاع عن سلطة صالح التي أصبحت حتما آيلة للسقوط، فأي استمرار لعملية انقاذه، إنما يشكل عبئاً ثقيلاً لن يستفيد منه إلا تنظيم القاعدة الذي يستغل الفراغ بسبب الأحداث في التمدد والانتشار بعد السيطرة على أبين بمساعدة صالح ، كما أشار إلى ذلك فيما بعد الرئيس عبدربه منصور هادي.
- ويتعلق البعد الثاني باستشراف البديل لنظام صالح في الاتجاه الذي يضمن أن لا يكون معادياً أو غير متحمساً لأولويات الإدارة الأمريكية في اليمن، لذلك سارعت الإدارة الأمريكية إلى ممارسة سياسة الضغط المزدوج تحت مظلة المبادرة الخليجية.
- فمن جهة أظهرت الإدارة الأمريكية موقفها الجديد بدعوة صالح للاستجابة لتطلعات الشعب بالانتقال السلمي للسلطة فاليمن أصبح بحاجة لزعيم جديد (37) ، وظلت التصريحات الأمريكية تتوالى بضرورة نقل السلطة حتى بعد حادثة دار الرئاسة وغياب الرئيس صالح للعلاج في السعودية، واكتمل هذا المشهد بتقرير الإدارة الأمريكية تواصلها وتنسيقها مع نائب الرئيس عبدربه منصور هادي لإدارة وقيادة العمليات العسكرية ضد القاعدة في محافظة أبين.
- ومن جهة أخرى ، حرصت الإدارة الأمريكية وفي سياق التمسك بمصالحها وأولوياتها الاستراتيجية في اليمن على ضبط حدود التغيير، حيث حرصت أن يقتصر التغيير على رأس النظام (صالح) مع بقاء بنية النظام السابق، وهذا ما أظهرته التحركات الأمريكية عبر سفيرها في اليمن التي ركزت على ممارسة الضغط المزدوج، حيث مارست الإدارة ضغوطاً على قوى الثورة بالقبول ولو مرحلياً باستمرار أقارب صالح في قيادة الأجهزة العسكرية والأمنية ذات العلاقة بمحاربة القاعدة، إضافة إلى اشراك حزب صالح (المؤتمر الشعبي العام) في 50 % من حكومة الوفاق الوطني لضمان استمرار التوازن السياسي مع قوى الثورة ، وباعتبار أن هذا التوازن يكفل للإدارة الأمريكية ضبط حدود التغيير الذي أفرزته ثورة التغيير السلمية أو أنها تتحكم بمساره في الاتجاه المرغوب.
_ ويتعلق البعد الثالث في استراتيجية التكيف والاحتواء ومن خلال توظيفها للمبادرة الخليجية في الاتجاه الذي يمكنها من الإشراف المباشر على القضايا الأمنية والعسكرية المرتبطة باستراتيجية مكافحة الإرهاب، ومن هذه القضايا والملفات :
• العمل مع رئيس الجمهورية التوافقي للمرحلة الانتقالية عبدربه منصور في الاستمرار في عملية محاربة القاعدة، وقد أعلن الرئيس التوافقي عند أداء القسم بأن من أولوياته المحاربة الجادة لتنظيم القاعدة.
• ولتحقيق فاعلية وكفاءة الحرب على الإرهاب وإلحاق الهزيمة بتنظيم القاعدة، فقد تمسك الأمريكيون بالاشراف والمتابعة لقضايا إعادة هيكلة الجيش والأمن وفي الاتجاه الذي يضمن استمرار الحرب على الإرهاب كعقيدة قتالية للجيش اليمني ومؤسساته الأمنية.
• ومن أجل ذلك ، رفعت الإدارة الأمريكية من حجم العون الاقتصادي لليمن، والذي بلغ نحو (630) مليون دولار، منذو نوفمبر 2011، وفقاً لتصريح الخارجية الأمريكية، وقد خصص منها نحو (247) مليون دولار للفترة 2012 / 2013 ، لتمويل عملية بناء قدرات الأمن اليمني في مواجهة الإرهاب، واللافت هنا أن العون الاقتصادي لا يمثل إلا أداة في استراتيجية مواجهة الإرهاب.
لذلك لم يكن صعباً أن يدرك الرأي العام اليمني أن مسارات السياسة الأمريكية ومواقفها باتجاه ثورة الربيع اليمني كانت محكومة ومقيدة بأولوياتها الأمنية والاستراتيجية المتعلقة بمكافحة الإرهاب والقاعدة على وجه التحديد.
خامساً :ملاحظات ختامية
(1 – 5) مع تسلم الرئيس التوافقي عبد ربه منصور هادي مهام الرئاسة في فبراير 2012، كانت الخارطة الأمنية للبلاد تتنازعه قوى متعددة ومن أبرزها:
- أمانة العاصمة مقسمة إلى حواجز عسكرية وأمنية بين الجيش المؤيد للثورة والجيش الموالي للرئيس السابق (قوات الحرس الجمهوري).
- جماعة الحوثي المسلحة تسيطر على محافظة صعدة وتحمل مشروعاً طائفياً واتخذت لها عنوان هو أنصار الله .
- الحراك المسلح في الجنوب –فصيل نائب الرئيس الأسبق علي سالم وهو فصيل مدعوم من إيران ويحمل مشروعاً انفصالياً، وهناك تحالف غير معلن بين جماعة الحوثي والحراك الجنوبي المسلح أفصح عن بعض ملامحه القيادي الحراكي الجنوبي حسين زيد بن يحيى ، الذي أكد وجود تحالف بين فصائل الحراك المدعومة من إيران وبين الحوثيين، وأن هناك زيارات متكررة من الحوثيين وعناصر الحراك المسلح إلى إيران. (38)
- تنظيم القاعدة الذي اتخذ له عنواناً جديداً وهو أنصار الشريعة، قد أحكم سيطرته على مدينة زنجبار عاصمة محافظة أبين في 27 مايو 2011، وقد أشار كثير من المراقبين أن سيطرة التنظيم على أبين كانت بفعل تسهيلات قدمها نظام صالح كأحد أوراق اللعبة التي كان صالح يلعبها في مواجهة ثورة التغيير السلمية، وبسبب هذه التسهيلات تصاعدت أنشطة القاعدة وسيطرتها على محافظة أبين، وتكوين ما أسمته بالإمارات الإسلامية ، كان الرئيس عبد ربه نفسه هو من أكد حصول هذه التسهيلات من نظام صالح للقاعدة ، حيث ذكر أن صالح قد سلم أبين للقاعدة.
وأياً كان الأمر، فإن اللافت هو تزايد أنشطة القاعدة خلال الفترة 2011 – 2012 ، حيث نفذت عدد من العمليات الإرهابية منها عملية 25 فبراير 2012 التي استهدفت القصر الرئاسي في مدينة المكلا بحضرموت وقتلت نحو 26 جندياً من قوات الحرس الجمهوري.
وعملية أخرى هي اقتحام أحد معسكرات الجيش في منطقة دوفس (أبين) وقتلت نحو (185) جندي وأصابت عشرات الجنود وغير ذلك من العمليات التي أحصتها بعض المصادر الأمنية إلى أنها بلغت نحو (15) سيارة مفخخة نفذها تنظيم القاعدة كذلك اغتيال نحو سبعين ظابطاً عسكرياً وأمنياً خلال 2012م(39)
ومن أسوأ عمليات القاعدة في 2012 هي العملية الإرهابية في 21 مايو 2002، في ميدان السبعين ، الذي استشهد فيها نحو (86) جندي وما يزيد على 200 جريح من جنود الأمن المركزي أثناء أداء عروض تدريبية للاحتفال بعيد الوحدة.
وبطبيعة الحال فقد تحددت استراتيجية الدولة كما أعلنها الرئيس عبد ربه وعلى عكس سلفه الرئيس السابق في المواجهة الصارمة والجادة لتنظيم القاعدة، وتطبيقاً لتلك الاستراتيجية شن الجيش اليمني حربه الواسعة على القاعدة تحت عنوان : حملة السيوف الذهبية، التي أزاحت تنظيم القاعدة من محافظة أبين بعد سيطرة عليها دامت نحو عام كامل، ومن جانب آخر ، تضاعفت الضربات الجوية الأمريكية بطائرات دون طيار حيث بلغت نحو (46) غارة خلال 2012م، أسفرت عن قتل نحو (300) من القاعدة (40).
وبالمقابل كان تنظيم القاعدة بدوره قد حدد استراتيجيته الجديدة المتمثلة في استراتيجية "الذئب المنفرد" التي تركز على توجيه ضربات خاطفة بأعداد قليلة، وتطبيقاً لذلك شنت القاعدة هجمات دامية على مقار قيادة المناطق العسكرية في جنوب اليمن ونفذت سلسلة من الإغتيالات ، ولعل أشهر هذه الهجمات هو هجومها على مقر وزارة الدفاع في صنعاء(هجوم العرضي) في ديسمبر 2013م، بيد أن الهجوم على العرضي وكما تشير كثير من الدلائل إلى أن القاعدة لم تكن إلا أحد أدوات محاولة الانقلاب العسكري على النظام الذي يقوده الرئيس عبد ربه ، وأياً كان الأمر، فإنه من الواضح أن الإدارة الأمريكية قد نجحت في إبقاء الملف الأمني المكرس لمواجهة القاعدة يحضى بالألولية في ظل النظام الجديد الذي يقوده الرئيس عبد ربه ، في ظل حاجة اليمن لدعم الأشقاء والأصدقاء لدعم مسيرة التغيير التي جسدتها ثورة التغيير السلمية.
(2 – 5) وعلى خلاف ما حدث في السنوات السابقة لثورة التغيير فإن المعركة الحالية مع الإرهاب معركة جادة وحقيقية ، وتحضى بإرادة سياسية ودعم شعبي، باعتبار أن القاعدة تمثل خطراً حقيقياً على اليمن والإقليم والعالم، كما أنها تمثل مشروعاً تفكيكياً للدولة اليمنية وعائقاً كبيراً أمام بناء اليمن الجديد والنهضة الاقتصادية والاستقرار السياسي والاجتماعي، ويستوي معها في هذا الأمر الجماعات المسلحة الأخرى ، كجماعة الحوثي والحراك الجنوبي المسلح التابع للبيض.
هذه الحالة جعلت المعركة مع الإرهاب تبدو وكأنها قضية مفتوحة، فاستراتيجية الذئب المنفرد تستهدف إرباك الدولة وإنهاكها واستنزاف مواردها وإشغالها عن تحقيق التغيير المنشود.
وإزاء هذه المعركة ، شن الجيش اليمني منذ 8 مايو 2014م، مدعوماً بإرادة شعبية غير مسبوقة، حملة عسكرية شاملة أخرى على تنظيم القاعدة في محافظات أبين، وشبوة، والبيضاء، واللافت للنظر أن العلاقات الأمنية الأمريكية اليمنية وانعكاسها على مواجهة الإرهاب لا تخفى وجود عدد من الأشكالات، بل أنها تطرح أسئلة مهمة مازال الإجابة عليها مفتوحاً على كل احتمال، ويتم تداولها في السوق السياسي اليمني على نطاق واسع، ويمكن القول أن هناك جملة من الدلالات التي يمكن رصدها فيما يتعلق بهذه الإشكالات والأسئلة المرتبطة بمواجهة الإرهاب في اليمن وأهمها:
• أن الحرب المفتوحة مع القاعدة بين جيش يحارب وفقاً للقواعد والنظم العسكرية المعروفة ، وبين تنظيم يستخدم أسلوب حرب العصابات والضربات الخاطفة مع سرعة الحركة والتنقل من مكان إلى آخر هي معركة لا نهاية ولا أفق زمني لها، ومحلياً فإن هذا يربك عملية التغيير ويستنزف الموارد، وينهك الدولة. ويرى بعض المراقبين أن بقاء الحرب مفتوحة ومستمرة، يخدم الأهداف الاستراتيجية الأمريكية ويقدم المزيد من المبررات للتدخل الأمريكي في شؤون اليمن ، كما أن ذلك يتسق مع الاستراتيجية الأمريكية الأمنية في السيطرة على الشواطئ والمضائق، ومنها باب المندب الذي يمر فيه نحو 60 % من تدفقات النفط إلى الغرب.
• ولذلك فإن استراتيجية "اللعبة مستمرة" في حرب القاعدة التي تتبناها الإدارة الأمريكية من شأنها أن تبقي مناطق الصراع بؤر متوترة ومشتعلة، مما يعني إنتاج المزيد من الإرهابيين وتغذية سوق الإرهاب بهم في إطار عملية تبدو طبيعية وغير مباشرة.
ويظهر سياق الأحداث ومآلاتها من جانب آخر حالة التزامن بين مشروع القاعدة التدميري من جهة والمشروع الحوثي والحراك الانفصالي المسلح في تحقيق مشروعاتهم الخاصة التفكيكية من جهة أخرى ومنها تمزيق البلد طائفياً وجغرافياً من الداخل، وهي الحالة التي تصب بصورة مباشرة وغير مباشرة في مصلحة الأهداف الاستراتيجية الأمريكية في ظل تقاطع المصالح الأمريكية الإيرانية فيما يتعلق بالمشروع الطائفي .
بيد أن هذا التفتيت ان تسارع سيكون خطيراً على الاستقرار الأمني لليمن والإقليم والولايات المتحدة الأمريكية ، لذلك ، فإنه من المتوقع أن تظل هذه المشاريع التفكيكية ضمن خطوط حمراء تخدم الإستراتيجية الأمنية للولايات المتحدة دون أن تلحق بها أضراراً كبيرة، لذلك، فإن مسار العلاقات اليمنية الأمريكية أمنياً محكومة بقواعد اللعبة التي تمارسها الإدارة الأمريكية في الداخل اليمني من جهة ، والأدوار التي تؤديها دول الجوار في الخليج في إطار الاستراتيجية الأمريكية من جهة أخرى.
• ومن جانب آخر ، فإن تقاطع المصالح الأمريكية الإيرانية يشكل بعداً آخر في مسار العلاقات اليمنية الأمريكية أمنياً واستراتيجياً، ويؤثر كذلك على مستوى علاقة الإدارة بدول الخليج، وعلاقة الأخيرة باليمن. وإذا كان لتقاطع المصالح الأمريكية الإيرانية ما يبررها استراتيجياً في هذه المرحلة -من وجهة نظرهم- إلا أن دواعي هذا التقاطع لا يمكن عزله بالنسبة للاستراتيجية الأمريكية واتكائها على مقولة دعا إليها الرئيس الأمريكي الأسبق نيكسون في كتابه "الفرصة السانحة" الذي أشار فيها إلى أهمية تعميق الصراعات الشيعية السنية في العالم العربي والإسلامي كأحد أذرع استراتيجية الهيمنة الأمريكية في المنطقة. ولذلك ليس غريباً أن يلاحظ كثير من المراقبين أن تقاطع المصالح الإيرانية الأمريكية قد أتاح تمدد الدور الإيراني في اليمن والخليج وسوريا ولبنان والعراق. ويبرر بعض صناع الرأي في الولايات المتحدة تقاطع المصالح الإيرانية الأمريكية بتطلع الإدارة الأمريكية إلى دور سياسي متزايد للشيعة في العالم العربي، فوفقاً لرأي فرديدريك بيري (كبير الباحثين في برنامج الشرق الأوسط بمركز "كارينجي" ) فإن الإدارة الأمريكية تدرك أهمية وجود دور سياسي كبير للشيعة، وهذا الدور لا ينطلق من زاوية إذكاء الصراع الشيعي – السني، وإنما من زاوية حقوقية ترى أن للشيعة حقاً في المشاركة والحضور السياسي.
( 3 – 5 ) ويثير الوضع السابق سؤالاً أكثر أهمية بالنسبة لليمنيين ما زالت الإجابة عليه مفتوحاً على كل احتمال، وهو حقيقة المعركة ضد تنظيم القاعدة ، وتكمن الإشكالية فيما يدركه الرأي العام اليمني من وجود ظاهرة توظيف القاعدة ، مما يتطلب التمييز بدقة فيما جرى لتنظيم القاعدة من تغير هيكلي، فقد أصبح هناك قاعدة "أو قواعد" تحت الطلب!، وبالتالي يغدو الأمر أكثر تعقيداً فيما يتعلق بالتساؤلات عن حقيقة المعركة.
فتنظيم القاعدة في اليمن وفقاً لمراقبين سياسيين لم يعد هو التنظيم الأصلي الذي كانت له ايدلوجية عقائدية متعلقة بمجابهة المصالح الغربية ، وفقاً لعقيدة المؤسس ابن لادن.
فقد جرى تبديل لبنية التنظيم شكلاً وموضوعاً، حيث تغيرت ايدلوجيته الأصلية وأصبح همه ضرب المصالح الوطنية ومنها المؤسسات العسكرية والأمنية وقتل الضباط أو الجنود.
ويشير المراقبون ، إلى أن نظام صالح كان قد عمد إلى التخلص من العناصر العقائدية في التنظيم الأصلي إما بالإغتيال أو بالاحتواء ، كما تم اختراق التنظيم بعناصر جديدة لا تحمل المضمون العقائدي الأصلي.
وهي الظاهرة التي يتداولها اليمنيون بأنها القاعدة البديلة التي تُوظف وتُستأجر لتنفيذ العمليات القذرة، الأمنية أو السياسية، وضرب المصالح الوطنية، إضافة إلى ضرب المصالح الغربية في اليمن، فلا فرق في ذلك من حيث اعتبارها عمليات إرهابية مدانة ومرفوضة، وبصرف النظر عن مستوى نجاعة هذا التقييم المتداول وإن كانت له مؤشرات دالة عليه، إلا أنه يمكن القول وبدون مواربة أن هناك معركة حقيقية تقوم بها السلطة وبتأييد شعبي واسع لمحاربة القاعدة، باعتبارها تمثل خطراً حقيقياً على حاضر اليمن ومستقبله ، لكن جعل المعركة مفتوحة وبلا أفق زمني ، تثير اشكالية توظيف القاعدة في ظل تساؤلات مفتوحة على كل احتمال ومنها ما يعود إلى طبيعة التعامل مع القاعدة في فترة الرئيس السابق وتكرار قواعد اللعبة، معها حتى الآن ومن هذه التساؤلات ما يلي:
• أظهرت الأحداث في الفترة الماضية أن القاعدة أضحت أحد الأدوات التنفيذية للقوى المتنافسة والمتصارعة على المستوى المحلي والإقليمي والدولي، فتنظيم القاعدة مخترق من أجهزة استخبارات هذه القوى ، مما يمكنها من استعمال القاعدة كأداة أو غطاء لتبييض الأهداف القذره لهذه القوى في اليمن. وذلك ما يشير إلى أن اليمن أصبحت ساحة صراع لحروب بالوكالة تخوضها هذه القوى تحت غطاء أو ستار القاعدة، ومن ثم هناك قلق محلي واسع من أن كلا من تزايد نشاط القاعدة وطبيعة مواجهتها ليست إلا واحدة من استراتيجيات إدخال البلاد في فوضى عارمة تستهدف إعاقة التغيير وإدخال البلد في نفق مظلم. ومما يؤيد هذا الاتجاه تجربة نظام صالح مع القاعدة في السنوات الماضية. إضافة إلى ما أكده الرئيس هادي في خطاب له عشية الإعلان عن تدشين المرحلة الثانية من الحرب الشاملة على الإرهاب في 8 مايو 2014، الذي أشار إلى قوى خارجية تصدر الإرهاب إلى اليمن، متوعداً بكشف هذه الأوراق في لحظة ما.
• وثمة تساؤلات ما زالت مفتوحة ومطروحة منذو ظهور أنشطة القاعدة في عهد الرئيس صالح، تتركز حول علاقة نظام صالح بالقاعدة واستخدامها كأداة لابتزاز دول الغرب والإقليم لتحقيق أهداف اقتصادية وسياسية من جهة ، وفي مواجهة وإضعاف خصومة السياسيين من جهة أخرى.
ومنها تمكين القاعدة من السيطرة على محافظة أبين كجزء من أدوات صالح لمواجهة ثورة التغيير وإرباك المشهد الثوري السلمي في 2011، إضافة إلى جعلها أداة من أدوات تعطيل مسار التسوية السياسية وبناء اليمن الجديد، وقد أشار إلى ملامح بعض هذه الألغاز الرئيس عبد ربه عندما ذكر أن صالح سلم أبين للقاعدة.
إضافة إلى إشارة الرئيس هادي في إحدى فعاليات التحضير لمؤتمر الحوار الوطني عندما قال : علينا العمل بحذر وإلا فإن سيارة مفخخة أو حزاماً ناسفاً سيستهدفنا وسوف يرتاح صالح بعدها، كما أكد هذه العلاقة محافظ أبين السابق اللواء صالح الزوعري ، عندما صرح بأن سلطة النظام السابق هي من تآمرت على محافظة أبين وسلمتها للمسلحين عندما أعطت الأوامر الصريحة للقيادات الأمنية بتسليم المحافظة(41).
• ومن جهة أخرى ، توظيف الإدارات الأمريكية الحرب على القاعدة في سياق سياسي داخلي أمريكي ولأغراض انتخابية بين الحزبين الديمقراطي والجمهوري (42) مما يحفز على جعل الحرب على القاعدة عملية مستمرة خارج حدود الولايات المتحدة الأمريكية.
هذا النمط من السلوك السياسي كان حافزاً أيضاً لتعويم ظاهرة توظيف الإرهاب في مواجهة الخصوم السياسيين في بلدان الربيع العربي، بل أن هذا التوظيف غدى أحد أذرع الثورات المضادة لثورات الربيع العربي، حيث وجدت منظومة الاستبداد والمستبدين الذين أسقطهم الربيع العربي في توظيف الإرهاب ورقة رابحة في الانقلاب على الربيع العربي، فقد وضف الإرهاب في مواجهة الثورة السورية منذ أول يوم، واتكئ الانقلاب العسكري في مصر على توظيف الإرهاب في الإطاحة بأول تجربة ديمقراطية حقيقية في مصر ورئيس منتخب. وتجري محاولة استنساخ هذا الانقلاب في ليبيا وتحت شعار مواجهة الإرهاب.
وفي حقيقة الأمر، فإن توظيف الإرهاب في تمرير حكم الاستبداد، ليس من نتيجة له إلا إشاعة عدم الاستقرار من جهة، وتمييع المعركة الحقيقية على الإرهاب. من جهة أخرى، إضافة إلى الخلط المقصود بين الإرهاب الحقيقي والإرهاب المصنوع لمقاصد سياسية انتهازية.
• إشكالية أخرى تتعلق بمضمون ومحتوى المعركة ضد الإرهاب، فلا ريب أن معركة الجيش اليمني مع الإرهاب هي معركة حقيقية وتحضى بدعم شعبي، وتتوفر إرادة سياسية ومجتمعية في القضاء على الإرهاب باعتباره قضية خطيرة وتحدي يواجه اليمن، تأكل الأخضر واليابس وتضعف الاستقرار وتعوق عملية التغيير والبناء وتهدد برامج اليمن الاقتصادية والاجتماعية ، ولكن ينبغي أن تكون المعركة وفقاً لرؤية استراتيجية شاملة تستهدف جذور الإرهاب ومنابعه السياسية والاجتماعية والاقتصادية.
إن المناطق التي تنتشر فيها القاعدة هي مناطق تعاني من الفقر والبطالة وتدني مستوى الخدمات والظلم وغير ذلك ، وبالتالي فلا بد من معالجة هذه الجذور وهذا يتطلب الإدراك أن مصلحة اليمن تكمن في حقيقة المعركة على الإرهاب لا في شكلها أو توظيفها لأهداف القوى المحلية والدولية والإقليمية.
( 4 – 5 ) إن معركة القضاء على الإرهاب ستأتي أكلها في سياق بناء اليمن الجديد القائم على التنمية المستدامة والبشرية، والعدالة والإنصاف ومجابهة البطالة وبسط سيطرة الدولة على أراضيها.
وفي ظل بناء نظام سياسي يقوم على التعددية السياسية والتداول السلمي للسلطة والحوار السلمي كنهج لحل التباينات والنظام الاتحادي الذي أقره مؤتمر الحوار الوطني ، وفي إطار دولة مدنية تقوم على نزع سلاح المليشيات من الجماعات المسلحة (الحوثي مثالاً) التي أصبحت تستفيد من بقاء المعركة مع الإرهاب في مجرد عملية عسكرية، تشكل نزيفاً مستمراً يؤدي إلى إنهاك الجيش في معارك القاعدة بينما هي تستفيد في مزيد من التمدد والتوسع في شمال اليمن، إضافة إلى استفادة بعض رموز النظام السابق من بقاء الأوضاع متوترة وما يترتب على ذلك من عرقلة تنفيذ مسار التسوية السياسية التي تؤسس لبناء اليمن الجديد.
فلا ريب أن بناء اليمن الجديد يتطلب حسم معركة الإرهاب ونزع سلاح مليشيات الجماعات الأخرى ، وهذا هو مطلب اليمنيين لكن التحدي الذي يواجه اليمن في هذه المرحلة هو كيف يمكن تحقيق حقيقة المعركة على الإرهاب وعزلها عن عمليات التوظيف القذرة التي تجعل المعركة مستمرة بدون أفق زمني، وكيف يمكن حرمان الجماعات المسلحة الأخرى من الاستفادة من هذه المعركة لصالح تواجدها المسلح أيضاً .
إن الإجابة على ذلك، يكمن في وثيقة ضمانات تنفيذ مخرجات الحوار الوطني التي أقرها اليمنيون ، وذلك يستلزم بناء الكتلة الوطنية الواسعة المؤمنة بالتغيير وبناء اليمن الجديد.
وبطبيعة الحال فإن الوضع الأمني يشكل أولوية ومصدر قلق مستمر للإدارة الأمريكية بحكم الخصائص الجيواستراتيجية التي تتمتع بها اليمن، وأهمية تلك الخصائص لتأمين المصالح الاستراتيجية الأمريكية.
لذلك تحتاج العلاقات الأمنية بين اليمن والولايات المتحدة إلى مراجعات وتقييم بما يحقق المصالح المشتركة المنصفة.
( 5 – 5 ) وفي ختام هذه الملاحظات الختامية ينبغي التأكيد على أن اليمن بحاجة إلى إعادة تعريف وتقييم العلاقات الأمنية اليمنية الأمريكية لكن ليس من زاوية اللعبة الصفرية التي يجيدها الطرف الأقوى على الطرف الضعيف، وهذا ما ينتظره اليمنيون في المرحلة القادمة.
ولكي يتم تعديل اللعبة الصفرية، فإن اليمنيين معنيين في المقام الأول بإدراك أنه وبعد اختتام مرحلة الحوار الوطني، ليس من مستقبل أمامهم إلا المضي في السيناريو الطبيعي للعبور إلى المستقبل واستمرار المسار التغييري الثوري السلمي لدعم وتنفيذ مخرجات الحوار الوطني فقد تجاوز اليمنيون حالة عدم اليقين التي تبرر توقع سيناريوهات أخرى، فلا يوجد إلا مسار طبيعي لكنه يواجه تحديات سياسية واقتصادية وأمنية ، ومواجهة هذه التحديات يكمن في بناء الكتلة الوطنية الواسعة من أولئك الذين يؤمنون بعملية التغيير وبناء اليمن الجديد، وكذلك استثمار الدعم الدولي للحالة اليمنية كقصة نجاح للحوار كمنهج حضاري لتحقيق التوافق في عملية البناء، وهذا يطلب إعادة تعريف العلاقات اليمنية الأمريكية لتغدو أكثر عدالة وإنصاف في تحقيق المصالح المشتركة للطرفين. إضافة إلى استثمار الحماس الأمريكي في دعم مسيرة التغيير في اليمن، التي ينبغي للبُعد الأمني أن يكون واحداً منها وليس كلها.
• إن فاعلية العلاقة الأمنية وجدواها يكمن في حصول الطرفين على مكاسب مشتركة تحضى بقبول ورضاء شعبي بالنسبة لليمنيين.
فاللافت في العلاقات اليمنية الأمريكية تضخم البعد الأمني فيها على حساب الأبعاد الأخرى في هذه العلاقة ، مما جعلها تبدو كلعبة صفرية تجني الإدارة الأمريكية مكاسبها الأكثر وتترك للجانب اليمني الشيء الأقل.
فالإدارة الأمريكية تظهر إشارات متناقضة تبثها من وقت لآخر، وكان آخرها ما أفصح عنه السفير الأمريكي الجديد في اليمن (ماثيو تولر) في الكونجرس الأمريكي، حيث حدد أولوياته في دعم الشعب اليمني في عملية الانتقال نحو الديمقراطية وتعزيز التعاون الأمريكي في المجال العسكري مع الحكومة اليمنية، وتشجيعها على المضي قدماً في هيكلة الجيش، إضافة إلى تعزيز الجهود الدولية لمساعدة اليمن في مواجهة توسع التطرف العنيف.
وبصورة عامة ، أكد السفير على دعم الإصلاحات الشاملة بما يدعم السياسة الخارجية الأمريكية ومصالح الأمن القومي ، ومن خلال وجود يمن ديمقراطي ، آمن ومستقر.(43)
ولذلك فإن تجاوز اللعبة الصفرية في هذه العلاقة يكمن في تأسيس العلاقة وفقاً لمعايير العدل والإنصاف والاستفادة من الجوانب الإيجابية في التجربة الماضية والتخلي عن السلبيات التي أظهرت الأيام أثرها الكبير السلبي على مسار العلاقة. مما يتطلب أن تكون العلاقة متكئة على مبادئ واضحة منها:
1. الرؤية الكلية والشاملة للبعد الأمني فلا يكفي أن تتوقف عند الوسائل والأدوات المباشرة الأمنية والعسكرية في مواجهة الإرهاب.
وإنما ينبغي أن يتعدى ذلك إلى البعد الاقتصادي والسياسي والاجتماعي، أي اعتماد مقاربة شاملة للبعد الأمني، فالتنمية الشاملة والمستدامة والتنمية السياسية ضرورية لمواجهة ليس فقد أعراض الإرهاب وإنما جذوره. ينبغي تجنب أن تغدو الأبعاد السياسية والاقتصادية والاجتماعية مجرد أدوات في الاستراتيجية الأمنية تخضع لميزان الربح والخسارة، وإنما كجزء أصيل في مواجهة استراتيجية مكافحة الإرهاب.
2. شفافية العلاقة ووضوحها للرأي العام واخضاعها للمناقشة العامة في مجتمع ديمقراطي لكسب حماس الرأي العام من جهة وعقلنة هذه العلاقة من جهة أخرى.
3. مأسسة العلاقة، فلا ينبغي أن تقوم على أساس شخصنة العلاقات وربطها بأشخاص محددين، بعيداً عن المؤسسات الدستورية.. ينبغي لهذه المؤسسات أن تقوم بدورها في تنظيم هذه العلاقة وبما يحقق الفاعلية والشفافية وضمان المصلحة الوطنية العامة ويحقق المصالح المشتركة في ظل احترام سيادة الدولة وبناء شراكة مع الولايات المتحدة مؤسسة على العدل والإنصاف .
4. اخضاعها للتقييم المستمر ومن ذلك تقييم جدوى عملية القتل بالطائرة بدون طيار، والكف عن هذا الاسلوب الذي لا يحضى برضاء شعبي وأصبح مرفوضاً، ويلحق ضرراً كبيراً بسلامة البلد ويسهم في صناعة الإرهاب ويكثر متعاطفي القاعدة، بسبب سقوط أبرياء في مثل هذه العمليات.
وبالإضافة إلى ذلك ، لا ينبغي تجاهل أو اسقاط مبدأ الحوار كأحد أساليب معالجة الإرهاب ولمن يقبل الحوار، فقد أظهرت الأحداث في كثير من البلدان، أن المواجهة الأمنية الصرفة ليست ناجعة تماماً.
وأخيراً فإنه لا ريب أن الضمانة الأساسية لبناء الدولة هي الدولة نفسها الذي تتم باستعادة هيبتها وممارسة حقها السياسي على كامل التراب الوطني والمواجهة الجادة لجماعات الإرهاب والعنف والقتل ونزع سلاح المليشيات التي وجدت في مناخات الثورة الشعبية الحقيقية فرصاً انتهازية لتفريغ بيوضها الفاسدة التي تفقست عنفاً وإرهاباً وعصبويات مقيتة، ومثل هذه الأجواء هي التي توفر الملاذات الحاضنة للإرهاب.
الهوامش والمراجع :
1) الأمة برس، محطات بارزة في مسيرة العلاقات اليمنية الأمريكية، 2/10/2012:http://www.thenation Press.net
2) الأمة برس، مرجع سبق ذكره.
3) CNN بالعربي، أربعة عقود من العلاقات اليمنية الأمريكية المتباينة، 22/4/2003: http://archive.arabic.CNN.com
4) وزارة الخارجية اليمنية ، الثابت والمتغير في الأولويات ومبادئ السياسية الخارجية لليمن.http://mofa.Gov.ye
5) المقاتل، انهيار الاتحاد السوفيتي، الاتحاد السوفيتي والحرب الباردة:http:www.moqatel.com
6) المقاتل ، مرجع سبق ذكره.
7) محمد الأفندي، النظرية الاقتصادية الكلية: السياسة والممارسة، الفصل الثاني، دار الأمين للطباعة والنشر، ط2 2004، صنعاء الجمهورية اليمنية.
8) المقاتل، مرجع سبق ذكره.
9) محمد الأفندي، شركاء اليمن في التنمية (الشركاء الاقليميون والدوليون) ، من كتاب الثورة اليمنية – الخلفية والآفاق، فؤاد الصلاحي(محرر) ، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات (مجموعة مؤلفين) ، قطر، ط1 ، أكتوبر 2012، ص323.
10) محمد الأفندي ، الاقتصاد اليمني والاقتصاد العالمي : آفاق الإندماج والتكامل، مجلة كلية التجارة والاقتصاد ، جامعة صنعاء، العدد (15 ، 16) ، 2001، صنعاء.
11) لتفاصيل أكثر : أنظر : صموئيل هنتغتون، صدام الحضارات وإعادة صنع النظام الدولي، ترجمة طلعت السايب، سطور للطباعة والنشر، 1999، القاهرة، ص46.
12) قناة الجزيرة الاخبارية، التاريخ غير المروي للولايات المتحدة ، فيلم وثائقي، 2014.
13) انظر : التقرير الاستراتيجي العربي 2002 / 2003، مركز الدراسات السياسية والاستراتيجية بالأهرام ، (2003) ، القاهرة.
14) شوقي محمود، المقاربة الأمنية الأمريكية في الحرب على الإرهاب، مجلة المفكر، العدد التاسع، جامعة محمد خضير بسكرة، الجزائر، صـ 395.
15) محمد المصري، سياسات الولايات المتحدة الأمريكية في منطقة الشرق الأوسط، مجلة سياسات عربية، العدد (7) مارس 2014م، المركز العربي للدراسات والأبحاث قطر، صـ56.
16) محمد المصري، مجلة سياسات عربية ، مرجع سبق ذكره.
17) ناصر الطويل، الحركة الإسلامية والنظام السياسي في اليمن، مكتبة خالد بن الوليد للطباعة والنشر والتوزيع، ط1، (2009) ، صنعاء، صـ 45.
18) ناصر الطويل، مرجع سبق ذكره.
19) فرانسوا بورجا، اليمن والعالم –تفاعل اليمن والعالم في العقد الأخير من القرن العشرين، مركز دراسات المستقبل والمركز اليمني للدراسات والنشر، صنعاء ، صـ222.
20) محمد الأفندي، شركاء اليمن في التنمية ، مرجع سبق ذكره.
21) ناصر الطويل، مرجع سبق ذكره.
22) فرانسوا بورجا، مرجع سبق ذكره.
23) محمد الأحمدي، العلاقات اليمنية الأمريكية بعد أحداث 11 سبتمبر : http://www.almoslim.net وانظر كذلك :
أحمد الضحياني، العلاقات الأمريكية الصالحية وأثرها على اليمن، صحيفة أخبار اليوم، الأحد 2 يونيو 2003م. وكذلك انظر : تقرير الحكومة اليمنية عن الإرهاب المقدم إلى مجلس النواب في 2002.
24) التقرير الاستراتيجي اليمني لعام 2002، المركز اليمني للدراسات الاستراتيجية، صنعاء (2003).
25) التقرير الاستراتيجي اليمني لعام 2003، المركز اليمني للدراسات الاستراتيجية ، صنعاء.
26) التقرير الاستراتيجي اليمني مرجع سبق ذكره.
27) التقرير الاستراتيجي اليمني لعام 2012، المركز اليمني للدراسات الاستراتيجية ، صنعاء.
28) التقرير الاستراتيجي اليمني لعام 2009، المركز اليمني للدراسات الاستراتيجية ، صنعاء.
29) التقرير الاستراتيجي اليمني ، مرجع سبق ذكره.
30) التقرير الاستراتيجي اليمني مرجع سبق ذكره.
31) التقرير الاستراتيجي اليمني مرجع سبق ذكره.
32) محمد الأفندي، ثورة الشعوب العربية: قراءة في الجذور والدلالات المستقبلية، مجلة شئون العصر، العدد (40)، (يناير- مارس 2011)، صـ 68.
33) محمد الأفندي، ثورة 11 فبراير في ذكراها الثالثة: الحوار ومستقبل ما بعد الحوار، مجلة شئون العصر العدد (51) أكتوبر – ديسمبر 2013، صـ5.
34) التقرير الاستراتيجي اليمني لعام 2012، مرجع سبق ذكره.
35) كان الباحث مدعواً للمشاركة في لقاء كلنتون، واعتذرت لأسباب خاصة.
36) عبدالله عبدالحليم أسعد، الولايات المتحدة الأمريكية والتحولات الثورية الشعبية في دول محور الاعتدال العربي (2010 – 2011 ) ، رسالة ماجستير، جامعة النجاح الوطنية، فلسطين صـ119.
37) قناة الجزيرة الإخبارية، تصريحات لوزير الخارجية الأمريكية هيلاري كلنتون في 13 / 10 / 2011م.
38) التقرير الاستراتيجي اليمني 2012، مرجع سبق ذكره.
39) التقرير الاستراتيجي اليمني 2012، مرجع سبق ذكره.
40) التقرير الاستراتيجي اليمني 2012، مرجع سبق ذكره.
41) التقرير الاستراتيجي اليمني 2012، مرجع سبق ذكره.
42) أثناء لقاء حوار بين الباحث والملحق الثقافي والإعلامي بالسفارة الأمريكية بصنعاء ثم في المركز اليمني للدراسات الاستراتيجية.
43) صحيفة المصدر، العدد (597) ، 29 – 31 مايو 2014، صـ 9.